فالفتنة والمحنة سنة إلهية لا معدل عنها تجرى في الناس الحاضرين كما جرت في الأمم الماضين كقوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم ولوط وشعيب وموسى فاستقام منهم من استقام وهلك منهم من هلك وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون.
فعلى من يقول: آمنت بالله أن يصبر على ايمانه ويعبد الله وحده فان تعذر عليه القيام بوظائف الدين فليهاجر إلى أرض يستطيع فيها ذلك فأرض الله واسعة ولا يخف عسر المعاش فان الرزق على الله وكأين من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها وإياه.
وأما المشركون الذين يفتنون المؤمنين من غير جرم أجرموه الا أن يقولوا ربنا الله فلا يحسبوا أنهم يعجزون الله ويسبقونه فأما فتنتهم للمؤمنين وايذاؤهم وتعذيبهم فإنما هي فتنة لهم وللمؤمنين غير خارجة عن علم الله وتقديره، فهي فتنة وهي محفوظة عليهم ان شاء أخذهم بوبالها في الدنيا وان شاء أخرهم إلى يوم يرجعون فيه إليه وما لهم من محيص.
وأما ما لفقوه من الحجة وركنوا إليه من باطل القول فهو داحض مردود إليهم والحجة قائمة تامة عليهم.
فهذا محصل غرض السورة ومقتضى ذلك كون السورة كلها مكية، وقول القائل: انها مدنية كلها أو معظمها أو بعضها - وسيجئ في البحث الروائي التالي - غير سديد، فمضامين آيات السورة لا تلائم الا زمن العسرة والشدة قبل الهجرة.
قوله تعالى: (ألم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون) الحسبان هو الظن، وجملة (أن يتركوا) قائمة مقام مفعوليه، وقوله: (أن يقولوا) بتقدير باء السببية، والفتنة الامتحان وربما تطلق على المصيبة والعذاب، والأوفق للسياق هو المعنى الأول، والاستفهام للانكار.
والمعنى: أظن الناس أن يتركوا فلا يتعرض لحالهم ولا يمتحنوا بما يظهر به صدقهم أو كذبهم في دعوى الايمان بمجرد قولهم: آمنا؟
وقيل: المعنى: أظن الناس أن يتركوا فلا يبتلوا ببلية ولا تصيبهم مصيبة لقولهم: آمنا بأن تكون لهم على الله كرامة بسبب الايمان يسلموا بها من كل مكروه يصيب الانسان مدى حياته؟ ولا يخلو من بعد بالنظر إلى سياق الآيات.