كما فرض التوراة على موسى ورفع به قدره وقدر قومه، ومن المعلوم أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان بمكة على ما فيها من الشدة والفتنة ثم هاجر منها ثم عاد إليها فاتحا مظفرا وثبتت قواعد دينه واستحكمت أركان ملته وكسرت الأصنام وانهدم بنيان الشرك والمؤمنون هم الوارثون للأرض بعد ما كانوا أذلاء معذبين.
وفى تنكير قوله: (معاد) إشارة إلى عظمة قدر هذا العود وأنه لا يقاس إلى ما قبله من القطون بها والتاريخ يصدقه.
وقوله: (قل ربى أعلم من جاء بالهدى ومن هو في ضلال مبين) يؤيد ما قدمنا من المعنى فإنه يحاذي قول موسى عليه السلام - لما كذبوه ورموا آياته البينات بأنها سحر مفترى -: (ربى أعلم بمن جاء بالهدى ومن تكون له عاقبة الدار) فأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يقول للفراعنة من مشركي قومه لما كذبوه ورموه بالسحر ما قاله موسى لآل فرعون لما كذبوه ورموه بالسحر للتشابه التام بين مبعثيهما وسير دعوتهما كما يظهر من القصة ويظهر ذلك تمام الظهور بالتأمل في قوله تعالى: (انا أرسلنا إليكم رسولا شاهدا عليكم كما أرسلنا إلى فرعون رسولا) المزمل: 15.
ولعل الاكتفاء بالشطر الأول من قول موسى عليه السلام والسكوت عن الشطر الثاني أعني قوله: (ومن تكون له عاقبة الدار) لبناء الكلام بحسب سياقه على أن لا يتعدى حد الإشارة والايماء كما يستشم من سياق قوله: (لرادك إلى معاد) أيضا حيث خص الخطاب بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم ونكر معادا.
وكيف كان فالمراد بقوله: (من جاء بالهدى) النبي صلى الله عليه وآله وسلم نفسه وبقوله:
(ومن هو في ضلال مبين) المشركون من قومه، واختلاف سياق الجملتين - حيث قيل في جانبه صلى الله عليه وآله وسلم: (من جاء بالهدى) وفى جانبهم: (من هو في ضلال مبين) فقوبل بين ضلالهم وبين مجيئه بالهدى لابين ضلالهم واهتدائه - لكون تكذيبهم متوجها بالطبع إلى ما جاء به لا إلى نفسه.
وقد ذكروا في قوله: (أعلم من جاء بالهدى) أن (من) منصوب بفعل مقدر يدل عليه (أعلم) والتقدير يعلم من جاء به بناء على ما هو المشهور أن أفعل التفضيل لا ينصب المفعول به، وذكر بعضهم أنه منصوب بأعلم وهو بمعنى عالم ولا دليل عليه،