تفسير الميزان - السيد الطباطبائي - ج ١٤ - الصفحة ٦٠
بالسلام الذي فيه إحسان وإعطاء أمن، ووعده أن يستغفر له ربه وأن يعتزلهم وما يدعون من دون الله كما أمره أن يهجره مليا.
أما السلام فهو من دأب الكرام قابل به جهالة أبيه إذ هدده بالرجم وطرده لكلمة حق قالها، قال تعالى وإذا مروا باللغو مروا كراما " الفرقان: 72، وقال: " وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما " الفرقان: 63، وأما ما قيل: إنه كان سلام توديع وتحية مفارقة وهجرة امتثالا لقوله: " واهجرني مليا " ففيه أنه اعتزله وقومه بعد مدة غير قصيرة.
وأما استغفاره لأبيه وهو مشرك فظاهر قوله: " يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان وليا " أنه عليه السلام لم يكن وقتئذ قاطعا بكونه من أولياء الشيطان أي مطبوعا على قلبه بالشرك جاحدا معاندا للحق عدوا لله سبحانه ولو كان قاطعا لم يعبر بمثل قوله: " إني أخاف " بل كان يحتمل أن يكون جاهلا مستضعفا لو ظهر له الحق اتبعه، ومن الممكن أن تشمل الرحمة الإلهية لأمثال هؤلاء قال تعالى: " إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يجدون حيلة ولا يهتدون سبيلا فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفوا غفورا " النساء: 99، فاستعطفه عليه السلام بوعد الاستغفار ولم يحتم له المغفرة بل أظهر الرجاء بدليل قوله: " إنه كان بي حفيا " وقوله تعالى: " إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن؟؟ لك وما أملك لك من الله من شئ " الممتحنة: 4.
ويؤيد ما ذكر قوله تعالى: " ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولى قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم، وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرا منه إن إبراهيم لاواه حليم " التوبة: 114، فتبريه بعد تبين عداوته دليل على أنه كان قبل ذلك عند الموعدة يرجو أن يكون غير عدو لله مع كونه مشركا، وليس ذلك إلا الجاهل غير المعاند.
ويؤيد هذا النظر قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة إلى - أن قال - لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم
(٦٠)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 ... » »»
الفهرست