تفسير الميزان - السيد الطباطبائي - ج ٨ - الصفحة ٥٧
والوسط إنما يكون وسطا بطرفه، وقول القائل: إنما الحسن ما أمر به الله و القبيح ما نهى عنه فلو أمر بما هو قبيح عقلا ضروريا كالظلم كان حسنا، ولو نهى عن حسن بالضرورة العقلية كالعدل كان قبيحا كما لو قال قائل: أن الله لو سلك بالانسان نحو الهلاك والفناء كان فيه حياته السعيدة، ولو منعه عن سعادته الخالدة الحقيقية عادت السعادة شقاوة.
فالحق الذي لا محيص عنه في المرحلتين: أن العقل النظري مصيب فيما يشخصه ويقضي به من المعارف الحقيقية المتعلقة به تعالى فإنا إنما نثبت له تعالى ما نجده عندنا من صفة الكمال كالعلم و القدرة والحياة، واستناد الموجودات إليه وسائر الصفات الفعلية العليا كالرحمة والمغفرة والرزق والانعام والهداية وغير ذلك على ما يهدي إليه البرهان.
غير أن الذي نجده من الصفات الكمالية لا يخلو عن محدودية وهو تعالى أعظم من أن يحيط به حد، والمفاهيم لا تخلو عنه لان كل مفهوم مسلوب عن غيره منعزل عما سواه وهذا لا يلائم الاطلاق الذاتي فتوسل العقل إلى رفع هذه النقيصة بشئ من النعوت السلبية تنزيها وهو أنه تعالى أكبر من أن يوصف بوصف وأعظم من أن يحيط به تقييد وتحديد فمجموع التشبيه والتنزيه يقربنا إلى حقيقة الامر، وقد تقدم في ذيله قوله تعالى: " لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة " المائدة: 73، من غرر خطب أمير المؤمنين علي عليه السلام ما يبين هذه المسألة بأوفى بيان ويبرهن عليها بأسطع برهان فراجعه إن شئت. هذا كله في العقل النظري.
وإما العقل العملي فقد عرفت أن أحكام هذا العقل جارية في أفعاله تعالى التشريعية غير أنه تعالى إنما شرع ما شرع واعتبر ما اعتبر لا لحاجة منه إليه بل ليتفضل به على الانسان مثلا وهو ذو الفضل العظيم فيرتفع به حاجة الانسان فله سبحانه في تشريعه غرض لكنه قائم بالانسان الذي قامت به الحاجة لا به تعالى، ولتشريعاته مصالح مقتضية لكن المنتفع بها هو الانسان دونه كما تقدم.
وإذا كان كذلك كان للعقل أن يبحث في أطراف ما شرعه من الاحكام ويطلب الحصول على الحسن والقبح والمصلحة والمفسدة فيها لكن لا لان يحكم عليه فيأمره وينهاه ويوجب ويحرم عليه كما يفعل ذلك بالانسان إذ لا حاجة له تعالى إلى كمال مرجو
(٥٧)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 ... » »»
الفهرست