والبحث طويل الذيل وقد تعارك فيه ألوف الباحثين من الطائفتين ومن وافقهم من غيرهم قرونا متمادية، ولا يسعنا تفصيل القول فيه على ما بنا من ضيق المجال غير أنا نشير إلى حقيقة أخرى يسفر به الحجاب عن وجه الحق في المقام.
لا ريب أن لنا علوما وتصديقات نركن إليها، ولا ريب أنها على قسمين: القسم الأول: العلوم والتصديقات التي لا مساس لها طبعا بأعمالنا وإنما هي علوم تصديقية تكشف عن الواقع وتطابق الخارج سواء كنا موجودين عاملين أعمالنا الحيوية الفردية أو الاجتماعية أم لا كقولنا: الأربعة زوج، والواحد نصف الاثنين، والعالم موجود، وإن هناك أرضا وشمسا وقمرا إلى غير ذلك، وهي إما بديهية لا يدخلها شك، وإما نظرية تنتهي إلى البديهيات وتتبين بها.
والقسم الثاني: العلوم العملية والتصديقات الوضعية الاعتبارية التي نضعها للعمل في ظرف حياتنا، والاستناد إليها في مستوى الاجتماع الانساني فنستند إليها في إرادتنا ونعلل بها أفعالنا الاختيارية، وليست مما يطابق الخارج بالذات كالقسم الأول وإن كنا نوقعها على الخارج إيقاعا بحسب الوضع والاعتبار لكن ذلك إنما هو بحسب الوضع لا بحسب الحقيقة والواقعية كالاحكام الدائرة في مجتمعاتنا من القوانين والسنن والشؤون الاعتبارية كالولاية والرئاسة والسلطنة والملك وغيرها فإن الرئاسة التي نعتبرها لزيد مثلا في قولنا " زيد رئيس " وصف اعتباري، وليس في الخارج بحذائه شئ غير زيد الانسان وليس كوصف الطول أو السواد الذي نعتبرهما لزيد في قولنا " زيد طويل القامة، أسود البشرة " وإنما اعتبرنا معنى الرئاسة حيث كونا مجتمعا من عدة أفراد لغرض من الأغراض الحيوية وسلمنا إدارة أمر هذا المجتمع إلى زيد ليضع كلا موضعه الذي يليق به ثم يستعمله فيما يريد فوجدنا نسبة زيد إلى المجتمع نسبة الرأس إلى الجسد فوصفناه بأنه رأس لينحفظ بذلك المقام الذي نصبناه فيه وينتفع بآثاره وفوائده.
فالاعتقاد بأن زيدا رأس ورئيس إنما هو في الوهم لا يتعداه إلى الخارج غير أنا نعتبره معنى خارجيا لمصلحة الاجتماع، وعلى هذا القياس كل معنى دائر في المجتمع الانساني معتبر في الحياة البشرية متعلق بالاعمال الانسانية فإنها جميعا مما وضعه الانسان وقلبها في قالب الاعتبار مراعاة لمصلحة الحياة لا يتعدى وهمه.