التفسير الصافي - الفيض الكاشاني - ج ٧ - الصفحة ٢٦
جبرئيل (عليه السلام) موقفا فقال له: مكانك يا محمد، فلقد وقفت موقفا ما وقفه ملك قط، ولا نبي إن ربك يصلي فقال: يا جبرئيل وكيف يصلي؟ قال: يقول: سبوح قدوس أنا رب الملائكة والروح، سبقت رحمتي غضبي، فقال: اللهم عفوك عفوك، قال: وكان كما قال الله: " قاب قوسين أو أدنى " قيل: ما قاب قوسين أو أدنى؟ قال: ما بين سيتها (1) إلى رأسها، قال: فكان بينهما حجاب يتلألأ بخفق ولا أعلمه إلا وقد قال: زبرجد، فنظر في مثل سم الإبرة إلى ما شاء الله من نور العظمة، فقال الله تبارك وتعالى: يا محمد، قال: لبيك ربي، قال: من لأمتك من بعدك؟ قال:
الله أعلم، قال: علي بن أبي طالب أمير المؤمنين، وسيد المسلمين، وقائد الغر المحجلين، ثم قال الصادق (عليه السلام): والله ما جاءت ولاية علي من الأرض، ولكن جاءت من السماء مشافهة (2).
أقول: لا تنافي بين هذه الروايات، وكلها صدر من معدن العلم على مقادير أفهام المخاطبين، و " سية القوس ": بكسر المهملة قبل المثناة التحتانية المخففة ما عطف من طرفيها، وهو تمثيل للمقدار المعنوي الروحاني بالمقدار الصوري الجسماني، والقرب المكاني بالدنو المكاني (3) تعالى الله عما يقول المشبهون علوا كبيرا، فسر الإمام (عليه السلام) مقدار القوسين بمقدار طرفي القوس الواحد المنعطفين، كأنه جعل كلا منهما قوسا على حدة، فيكون مقدار مجموع القوسين مقدار قوس واحد، وهي المسماة بقوس الحلقة، وهي قبل أن تتهيأ للرمي، فإنها حينئذ تكون شبه دائرة، والدائرة تنقسم بما يسمى بالقوس، وفي التعبير عن هذا المعنى بمثل هذه العبارة إشارة لطيفة إلى أن السائر بهذا السير منه سبحانه نزل وإليه صعد، وأن الحركة الصعودية كانت إنعطافية، وأنها لم تقع على نفس المسافة النزولية، بل على مسافة أخرى كما حقق في محله.
فسيره كان من الله وإلى الله وفي الله وبالله ومع الله، تبارك وتعالى، والحجاب الذي كان بينهما (4) هو حجاب البشرية، وإنما يتلألأ لانغماسه في نور الرب تعالى، بخفق أي باضطراب

١ - سية القوس - بالتخفيف -: ما عوطف من طرفيه، والجمع سيات. مجمع البحرين: ج ١، ص ٢٤٠، مادة " سيا ".
٢ - الكافي: ج ١، ص ٤٤٢ - ٤٤٣، ح ١٣، باب مولد النبي (صلى الله عليه وآله) ووفاته. ٤ - وفي هامش المخطوطة: أي بالرتبة.
٤ - وجاء في هامش المخطوطة عن الوافي ما نصه: قال السيد الداماد تغمده الله بغفرانه: الحجب من ضروب ملائكة الله هي جواهر قدسية، وأنوار عقلية هم حجب أشعة جمال نور الأنوار ووسائط النفوس الكاملة في الإتصال بجناب رب الأرباب جل سلطانه وبهر برهانه، وفي الحديث: " إن لله سبعا وسبعين حجابا من نور لو كشف عن وجهه لأحرقت سبحات وجهه ما أدركه بصره " * ١.
وفي رواية: " سبعمائة حجاب " * ٢، وفي أخرى: " سبعين ألف حجاب " * ٣، وفي أخرى: " حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه " * ٤.
قال: والنفس الإنسانية إذا استكملت ذاتها الملكوتية، ونفضت جلبابها الهيولاني، ناسبت نوريتها نورية تلك الأنوار، وشابهت جوهريتها، فاستحقت الإتصال والإنخراط في زمرتها، والاستفادة منها، ومشاهدة أضوائها، ومطالعة ما في ذواتها من صور الحقائق المنطبعة فيها. الوافي: ج ١، ص ٤٠٨ - ٤٠٩.
- * ١ - عوالي اللئالي: ج ٤، ص ١٠٦، ح ١٥٨، وفيه: " إن لله سبعين حجابا من نور وظلمة، لو كشفها. ". وجاء ما يقرب منه في بحار الأنوار: ج ٥٨، ص ٤٥، وكذلك في مرآة العقول: ج ٩، ص ٧١.
* ٢ - عوالي اللئالي: ج ٤، ص ١٠٦، قطعة من حديث ١٥٨.
* ٣ - عوالي اللئالي: ج ٤، ص ١٠٦، قطعة من حديث ١٥٨.
* ٤ - النهاية لابن الأثير: ج 2، ص 332، ما يقرب منه.
(٢٦)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 ... » »»