التفسير الصافي - الفيض الكاشاني - ج ٧ - الصفحة ٢٨
إذا ارتحل عنهم، وقد علم الله ذلك منه ولذلك سأله عنه، ولما كان الخليفة متعينا عند الله، وعند رسوله (صلى الله عليه وآله)، قال الله تعالى ما قال، ووصفه بأوصاف لم يكن لغيره أن ينال، وفي هذا الحديث أسرار غامضة لا ينال إليها أيدي أفهامنا الخافضة، فكلما جهدنا في إبدائها زدنا في إخفائها، ولا سيما في معنى صلاة الله سبحانه، وطلب العفو من نبيه (صلى الله عليه وآله) في مقابله، ومع ذلك فقد أشرنا إلى لمعة من ذلك في كتابنا المسمى بالوافي (1) في شرح هذا الحديث، ومن الله الإعانة على فهم

١ - الوافي: ج ٣، ص ٧١٥. وإليك نصه:
" بيان ": في هذا الحديث أسرار غامضة لا تنال إليها أيدي أفهامنا الخافضة، وإن نظرنا مثل سم الإبرة إلى ما شاء الله منها فحاولنا كشفه فكلما جهدنا في إبدائه زدنا في إخفائه، ومع ذلك فلا بأس إن أتيت بلمعة منها، لعل الله يفتح بها بابا لمن كان له أهلا، فإن أصبت فمن الله، وإن أخطأت فمن نفسي والله المستعان.
فأقول - وبالله التوفيق -: إنما أوقفه جبرئيل (صلى الله عليه وآله) ذلك الموقف الذي بلغه لأنه لم يكن له أن يرتقي إلى ما فوقه كما أشار إليه بقوله: " وقفت موقفا ما وقفه ملك قط ولا نبي "، ثم نبهه على امتناع الجواز عنه بقوله: " إن ربك يصلي " يعني إن الاسم الذي يربيك من الأسماء الربوبية يصلي للذات المقدسة الإلهية بتنزيهه عما لا يليق بجنابه أبلغ تسبيح، وتقدسيه أشد تقديس.
ويقول: كما إني ربك يا محمد فإني رب الملائكة الذين من جملتهم من يأتيك بالوحي من عندي، ورب الروح الذي يسددك بإذني، وإنك كنت تحتاج إلى مربوبي هذين في بلوغك هذا المقام الذي لن يبلغاه، فما أحرى بك أن لا تقصد ما فوقه ولا تتمناه.
ويقول أيضا: لولا ما كان من سبق رحمتي غضبي، وغلبة أسمائي الجمالية الأسماء الجلالية لما كان لك أن تصل إلى ما وصلت وتنال ما نلت، فلما تنبه (صلى الله عليه وآله) لذلك واستشعره فعند ذلك طلب العفو من الله سبحانه عما كاد يقع فيه مما ليس له.
وبالجملة: لما بلغ رسول الله (صلى الله عليه وآله) الموقف الذي ما وقفه غيره كان بمحل أن يخطر بباله ما فيه ضيره بأن يذهل عن البشرية بما كان قد بقي فيه من البقية، فكان بالحري أن ينبه دون وقوعه في ذلك على أن فوقه ما هو منزه عما هنالك، فقيل له ما قيل، فطلب العفو من الله الجليل.
" قال: وكان كما قال الله " يعني وكان ذلك الموقف الذي أوقفه ما قال الله.
ولا ينافي هذا ما روي أن جبرئيل (عليه السلام) تأخر عنه واعتذر بأنه لو دنى أنملة من مقامه الذي وصله لاحترق، لأن إيقافه للنبي لا يستلزم أن يكون معه في مقامه.
و " ألقاب ": المقدار. و " سية القوس ": بكسر المهملة قبل المثناة التحتانية المخففة: ما عطف من طرفيها، وهو تمثيل للمقدار المعنوي الروحاني بالمقدار الصوري الجسماني، والقرب المكاني بالدنو المكاني، فسر الإمام (عليه السلام) مقدار القوسين بمقدار طرفي القوس الواحد المنعطفين، كأنه جعل كلا منهما قوسا على حدة، فيكون مقدار مجموع القوسين مقدار قوس واحد، وهي المسماة بقوس الحلقة، وهي قبل أن تتهيأ للرمي، فإنها حينئذ تكون شبه م دائرة، والدائرة تنقسم بما يسمى بالقوس.
وفي التعبير عن هذا المعنى بمثل هذه العبارة إشارة لطيفة إلى أن السائر بهذا السير منه سبحانه نزل وإليه صعد وأن الحركة الصعودية كانت انعطافية، وأنها لم تقع على نفس المسافة النزولية بل على مسافة أخرى، كما مضى تحقيقه في بيان حديث إقبال العقل وإدباره، فسيره كان من الله وإلى الله وفي الله وبالله ومع الله تبارك الله عز وجل.
" فكان بينهما حجاب ": وهو حجاب البشرية. " يتلألأ ": لانغماسه في نور الرب تعالى.
" بخفق ": أي باضطراب وتحرك، وذلك لما كاد أن يفني عن نفسه بالكلية في نور الأنوار بغلبة سطوات الجلال.
" وقد قال زبرجد ": أي قال: حجاب زبرجد، يعني أخضر وذلك لأن النور الإلهي الذي يشبه لون البياض كان قد شابته ظلمة بشرية، فصار يتراءى كأنه أخضر على لون الزبرجد.
" فنظر ": أي من وراء الحجاب.
" من لامتك ": إنما سأله عن ذلك لأنه (صلى الله عليه وآله) كان قد أهمه أمر الأمة، وكان في قلبه أن يخلف فيهم خليفة إذا ارتحل عنهم، وقد علم الله ذلك منه ولذلك سأله عنه، ولما كان الخليفة متعينا عند الله وعند رسوله (صلى الله عليه وآله) قال الله ما قال ووصفه بأوصاف لم يكن لغيره أن ينال.
" أمير المؤمنين ": أما خبر لعلي أو وصف له، وعلى الأول تكون الجملة قائمة مقام الجواب ب‍ " هو هو، وعلى التقديرين بيان مع برهان.
" وقائد الغر المحجلين ": الغرة - بالضم -: بياض في الجبهة، ويقال للفرس: أغر، والتحجيل بياض في قوائم الفرس. قال في النهاية: المحجل: هو الذي يرتفع البياض في قوائمه في موضع القيد، ويجاوز الأرساغ ولا يجاوز الركبتين لأنها مواضع الأحجال، وهي الخلاخيل والقيود، ولا يكون التحجيل باليد واليدين ما لم يكن رجل أو رجلان. ومنه الحديث: أمتي الغر المحجلون أي بيض مواضع الوضوء من الأيدي والأقدام، استعار أثر الوضوء في الوجه واليدين والرجلين للإنسان من البياض الذي في وجد الفرس ويديه ورجليه. وقال في الأغر: ومنه الحديث: غر محجلون من آثار الوضوء. يريد بياض وجوههم بنور الوضوء يوم القيامة.
(٢٨)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 ... » »»