الإنصاف فيما تضمنه الكشاف - ابن المنير الإسكندري - ج ١ - الصفحة ٦٢٢
ضرورة بحسب تفاوت البواعث عليها، فليس اللذة برياسة الانسان على أهل قرية كلذته بالرياسة على أقاليم معتبرة، وإذا تفاوتت المحبة بحسب تفاوت البواعث فلذات العلوم أيضا متفاوتة بحسب تفاوت المعلومات، فليس معلوم أكمل ولا أجمل من المعبود الحق، فاللذة الحاصلة في معرفته تعالى ومعرفة جلاله وكماله تكون أعظم، والمحبة المنبعثة عنها تكون أمكن، وإذا حصلت هذه المحبة بعثت على الطاعات والموافقات. فقد تحصل من ذلك أن محبة العبد ممكنة بل واقعة من كل مؤمن، فهي من لوازم الايمان وشروطه، والناس فيها متفاوتون بحسب تفاوت إيمانهم، وإذا كان كذلك وجب تفسير محبة العبد لله بمعناها الحقيقي لغة، وكانت الطاعات والموافقات كالمسبب عنها والمغاير لها. ألا ترى إلى الأعرابي الذي سأل عن الساعة فقال له النبي عليه الصلاة والسلام:
ما أعددت لها؟ قال: ما أعددت لها كبير عمل، ولكن حب الله ورسوله، فقال عليه الصلاة والسلام: أنت مع من أحببت. فهذا الحديث ناطق بأن المفهوم من المحبة لله غير الأعمال والتزام الطاعات، لان الأعرابي نفاها وأثبت الحب وأقره عليه الصلاة والسلام على ذلك. ثم إذا ثبت إجراء محبة العبد لله تعالى على حقيقتها لغة فالمحبة في اللغة إذا تأكدت سميت عشقا، فمن تأكدت محبته لله تعالى وظهرت آثار تأكدها عليه من استيعاب الأوقات في ذكره وطاعته فلا يمنع أن تسمى محبته عشقا، إذ العشق ليس إلا المحبة البالغة، وما أردت بهذا الفصل إلا تخليص الحق والانتصاب لأحباء الله عز وجل من الزمخشري فإنه خلط في كلامه الغث بالسمين، فأطلق القول كما سمعته بالقدح الفاحش في المتصوفة من غير تحر منه نسب إليهم ما لا يعبأ بمرتكبه، ولا يعد في البهائم فضلا عن خواص البشر، ولا يلزم من تسمي طائفة بهذا الاسم غاصبين له من أهله، ثم ارتكابهم ما نقل عنهم مما ينافي حال المسمين به حقيقة أن يؤاخذ الصالح بالطالح - ولا تزر وازرة وزر أخرى - وهذا كما أن علماء الدين قد انتسب إليهم قوم سموا أنفسهم بأهل العدل والتوحيد، ثم خلعوا الربقة فجحدوا صفات الله تعالى وقضاءه وقدره وقالوا: إن الامر أنف، وجعلوا لأنفسهم شركا في المخلوقات وفعلوا وصنعوا، فلا يسوغ لنا أن نقدح في علماء أصول الدين مطلقا، لانهم قد انتسب إليهم من لا حيلة لهم في نفيه عن التسمي بنعتهم، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها، ولا شك أن في الناس من أنكر تصور محبة العبد لله إلا بمعنى طاعته له لا غير، وهو الذي يحاز إليه الزمخشري، وقد بينا تصور ذلك وأوضحناه، والمعترفون بتصور ذلك وثبوته ينسبون المنكرين إلى أنهم جهلوا فأنكروا، كما أن الصبي ينكر على من يعتقد أن وراء اللعب لذة من جماع أو غيره، والمنهمك في الشهوات والغرام بالنساء يظن أن
(٦٢٢)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 613 614 615 616 621 622 623 625 626 627 628 ... » »»