الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل - الزمخشري - ج ٣ - الصفحة ٥٣٤
من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى ولهم فيها من كل الثمرات ومغفرة من ربهم كمن هو خالد في النار وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم. ومنهم من يستمع إليك حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم ماذا قال آنفا أولئك الذين طبع الله على قلوبهم واتبعوا أهواءهم والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم. فهل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم
____________________
فكأنه قال له: نعم مثلي يفرح بمرزأة الكرام وبأن يستبدل منهم ذودا يقل طائله، وهو من التسليم الذي تحته كل إنكار: ومثل الجنة صفة الجنة العجيبة الشأن وهو مبتدأ وخبره كمن هو خالد، وقوله - فيها أنهار - داخل في حكم الصلة كالتكرير لها: ألا ترى إلى صحة قولك التي فيها أنهار، ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف هي فيها أنهار، وكأن قائلا قال: وما مثلها؟ فقيل فيها أنهار، وأن يكون في موضع الحال: أي مستقرة فيها أنهار، وفى قراءة علي رضي الله عنه أمثال الجنة: أي ما صفاتها كصفات النار. وقرئ أسن، يقال أسن الماء وأجن: إذا تغير طعمه وريحه، وأنشد ليزيد بن معاوية:
لقد سقتني رضابا غير ذي أسن * كالمسك فت على ماء العناقيد (من لبن لم يتغير طعمه) كما تتغير ألبان الدنيا فلا يعود قارصا ولا حاذرا ولا ما يكره من الطعوم (لذة) تأنيث لذ وهو اللذيذ أو وصف بمصدر، وقرئ بالحركات الثلاث، فالجر على صفة الخمر، والرفع على صفة الأنهار، والنصب على العلة: أي لأجل لذة الشاربين، والمعنى: ما هو إلا التلذذ الخالص ليس معه ذهاب عقل ولا خمار ولا صداع ولا آفة من آفات الخمر (مصفى) لم يخرج من بطون النحل فيخالطه الشمع وغيره (ماء حميما) قيل إذا دنا منهم شوى وجوههم وانمازت فروة رؤوسهم، فإذا شربوه قطع أمعاءهم. هم المنافقون كانوا يحضرون مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسمعون كلامه ولا يعونه ولا يلقون له بالا تهاونا منهم، فإذا خرجوا قالوا لأولى العلم من الصحابة ماذا قال الساعة؟ على جهة الاستهزاء. وقيل كان يخطب فإذا عاب المنافقين خرجوا فقالوا ذلك للعلماء. وقيل قالوه لعبد الله بن مسعود. وعن ابن عباس: أنا منهم وقد سميت فيمن سئل (آنفا) وقرئ أنفا على فعل نصب على الظرف، قال الزجاج: هو من استأنفت الشئ إذا ابتدأته، والمعنى: ماذا قال في أول وقت يقرب منا؟ (زادهم) الله (هدى) بالتوفيق (وآتاهم تقواهم) أعانهم عليها أو آتاهم جزاء تقواهم.
وعن السدى بين لهم ما يتقون. وقرئ وأعطاهم. وقيل الضمير في زادهم لقول الرسول أو لاستهزاء المنافقين (أن تأتيهم) بدل اشتمال من الساعة نحو - أن تطؤوهم - من قوله - رجال مؤمنون ونساء مؤمنات - وقرئ إن تأتهم بالوقف على الساعة واستئناف الشرط وهى في مصاحف أهل مكة كذلك، فإن قلت: فما جزاء الشرط؟ قلت:
قوله - فأنى لهم - ومعناه: إن تأتهم الساعة فكيف لهم ذكراهم، أي تذكرهم واتعاظهم إذا جاءتهم الساعة، يعنى لا تنفعهم الذكرى حينئذ كقوله تعالى - يومئذ يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى -. فإن قلت: بم يتصل قوله
(٥٣٤)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 529 530 531 532 533 534 535 536 537 538 539 ... » »»