الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل - الزمخشري - ج ٣ - الصفحة ٤٢٥
إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب * يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين في الأرض فمن ينصرنا من بأس الله إن جاءنا قال فرعون ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد * وقال الذي آمن يا قوم إني أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب *
____________________
نبي صادق لابد لما يعدهم أن يصيبهم كله لا بعضه؟ قلت: لأنه احتاج في مقاولة خصوم موسى ومنا كريه إلى أن يلاوصهم ويداريهم ويسلك معهم طريق الإنصاف في القول ويأتيهم من جهة المناصحة فجاء بما علم أنه أقرب إلى تسليمهم لقوله وأدخل في تصديقهم له وقبولهم منه فقال - وإن يك صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم - وهو كلام المنصف في مقاله غير المشتط فيه ليسمعوا منه ولا يردوا عليه، وذلك أنه حين فرضه صادقا فقد أثبت أنه صادق في جميع ما يعد، ولكنه أردفه يصبكم بعض الذي يعدكم ليهضمه بعض حقه في ظاهر الكلام فيريهم أنه ليس بكلام من أعطاه حقه وافيا فضلا أن يتعصب له أو يرمى بالحصا من ورائه، وتقديم الكاذب على الصادق أيضا من هذا القبيل، وكذلك قوله - إن الله لا يهدى من هو مسرف كذاب - فإن قلت: فعن أبي عبيدة أنه فسر البعض بالكل وأنشد بيت لبيد:
تراك أمكنة إذا لم أرضها * أو يرتبط بعض النفوس حمامها قلت: إن صحت الرواية عنه فقد حق فيه قول المازني في مسألة: العلقي كان أجفى من أن يفقه ما أقول له (إن الله لا يهدى من هو مسرف كذاب) يحتمل أنه إن كان مسرفا كذابا خذله الله وأهلكه ولم يستقم له أمر فيتخلصون منه، وأنه لو كان مسرفا كذابا لما هداه الله للنبوة ولما عضده بالبينات. وقل ما تولى أبو بكر من رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أشد من ذلك، طاف صلى الله عليه وسلم بالبيت فلقوه حين فرغ فأخذوا بمجامع ردائه فقالوا:
أنت الذي تنهانا عما كان يعبد آباؤنا؟ فقال: أنا ذاك، فقام أبو بكر الصديق رضي الله عنه فالتزمه من ورائه وقال: أتقتلون رجلا أن يقول ربى الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم، رافعا صوته بذلك وعيناه تسفحان حتى أرسلوه. وعن جعفر الصادق: إن مؤمن آل فرعون قال ذلك سرا وأبو بكر قاله ظاهرا (ظاهرين في الأرض) في أرض مصر عالين فيها على بني إسرائيل: يعنى أن لكم ملك مصر وقد علوتم الناس وقهرتموهم فلا تفسدوا أمركم على أنفسكم ولا تتعرضوا لبأس الله وعذابه فإنه لاقبل لكم به إن جاءكم ولا يمنعكم منه أحد وقال (ينصرنا، وجاءنا) لأنه منهم في القرابة وليعلمهم بأن الذي ينصحهم به هو مساهم لهم فيه (ما أريكم إلا ما أرى) أي ما أشير عليكم برأي إلا بما أرى من قلته: يعنى لا أستصوب إلا قتله وهذا الذي تقولونه غير صواب (وما أهديكم) بهذا الرأي (إلا سبيل الرشاد) يريد سبيل الصواب والصلاح، أو ما أعلمكم إلا ما أعلم من الصواب ولا أدخر منه شيئا ولا أسر عنكم خلاف ما أظهر: يعنى أن لسانه وقلبه متواطئان على ما يقول، وقد كذب فقد كان مستشعرا للخوف الشديد من جهة موسى ولكنه كان يتجلد، ولولا استشعاره لم يستشر أحدا ولم يقف الأمر على الإشارة. وقرئ الرشاد فعال من رشد بالكسر كعلام أو من رشد بالفتح كعباد. وقيل هو من أرشد كجبار من أجبر وليس بذلك لأن فعالا من أفعل لم يجئ إلا في عدة أحرف نحو دراك وسآر وقصار وحبار ولا يصح القياس على القليل.
ويجوز أن يكون نسبة إلى الرشد كعواج وبتات غير منظور فيه إلى فعل (مثل يوم الأحزاب) مثل أيامهم لأنه لما
(٤٢٥)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 420 421 422 423 424 425 426 427 428 429 430 ... » »»