الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل - الزمخشري - ج ٣ - الصفحة ٣٩٥
مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ذلك هدى الله يهدي به من يشاء ومن يضلل الله فما له من هاد
____________________
مطلق في مشابهة بعضه بعضا، فكان متناولا لتشابه معانيه في الصحة والأحكام والبناء على الحق والصدق ومنفعة الخلق، وتناسب ألفاظه وتناصفها في التخير والإصابة، وتجاوب نظمه وتأليفه في الإعجاز والتبكيت. ويجوز أن يكون (مثاني) بيانا لكونه متشابها لأن القصص المكررة لا تكون إلا متشابهة، والمثاني جمع مثنى بمعنى مردد ومكرر لما ثنى من قصصه وأنبائه وأحكامه وأوامره ونواهيه ووعده ووعيده ومواعظه. وقيل لأنه يثنى في التلاوة فلا يمل كما جاء في وصفه لا يتفه ولا يتشان ولا يخلق على كثرة الرد. ويجوز أن يكون جمع مثنى مفعل من التثنية بمعنى التكرير والإعادة كما كان قوله تعالى - ثم ارجع البصر كرتين - بمعنى كرة بعد كرة، وكذلك لبيك وسعديك وحنانيك. فإن قلت: كيف وصف الواحد بالجمع؟ قلت: إنما صح ذلك لأن الكتاب جملة ذات تفاصيل، وتفاصيل الشئ هي جملته لاغير، ألا تراك تقول القرآن أسباع وأخماس وسور وآيات، وكذلك تقول أقاصيص وأحكام ومواعظ مكررات، ونظيره قولك الإنسان عظام وعروق وأعصاب، إلا أنك تركت الموصوف إلى الصفة وأصله كتابا متشابها فصولا مثاني. ويجوز أن يكون كقولك برمة أعشار وثوب أخلاق. ويجوز أن لا يكون مثاني صفة ويكون منتصبا على التمييز من متشابها كما تقول: رأيت رجلا حسنا شمائل، والمعنى: متشابهة مثانيه.
فإن قلت: ما فائدة التثنية والتكرير؟ قلت: النفوس أنفر شئ عن حديث الوعظ والنصيحة، فما لم يكرر عليها عودا من بدء لم يرسخ فيها ولم يعمل عمله، ومن ثم كانت عادة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكرر عليهم ما كان يعظ به وينصح ثلاث مرات وسبعا ليركزه في قلوبهم ويغرسه في صدورهم. اقشعر الجلد: إذا تقبض تقبضا شديدا وتركيبه من حروف القشع وهو الأديم اليابس مضموما إليها حرف رابع وهو الراء ليكون رباعيا ودالا على معنى زائد، يقال اقشعر جلده من الخوف: وقف شعره، وهو مثل في شدة الخوف، فيجوز أن يريد به الله سبحانه التمثيل تصويرا لإفراط خشيتهم وأن يريد التحقيق، والمعنى: أنهم إذا سمعوا بالقرآن وبآيات وعيده أصابتهم خشية تقشعر منها جلودهم، ثم إذا ذكروا الله ورحمته وجوده بالمغفرة لانت جلودهم، ثم إذا ذكروا الله ورحمته وجوده بالمغفرة لانت جلودهم وقلوبهم زال عنها ما كان بها من الخشية والقشعريرة. فإن قلت: ما وجه تعدية لأن بإلى؟
قلت: ضمن معنى فعل متعد بإلى كأنه قيل سكنت أو اطمأنت إلى ذكر الله لينة غير منقبضة راجية غير خاشية.
فإن قلت: لم اقتصر على ذكر الله من غير ذكر الرحمة؟ قلت: لأن أصل أمره الرحمة والرأفة، ورحمته هي سابقة غضبه، فلأصالة رحمته إذا ذكر لم يخطر بالبال قبل كل شئ من صفاته إلا كونه رؤفا رحيما. فإن قلت: لم ذكرت الجلود وحدها أولا ثم قرنت بها القلوب ثانيا؟ قلت: إذا ذكرت الخشية التي محلها القلوب فقد ذكرت القلوب، فكأنه قيل: تقشعر جلودهم من آيات الوعيد وتخشى قلوبهم في أول وهلة، فإذا ذكروا الله ومبنى أمره على الرأفة والرحمة استبدلوا بالخشية رجاء في قلوبهم وبالقشعريرة لينا في جلودهم (ذلك) إشارة إلى الكتاب وهو (هدى الله يهدى به) يوفق به (من يشاء) يعنى عباده المتقين حتى يخشوا تلك الخشية ويرجوا ذلك الرجاء كما قال - هدى للمتقين - (ومن يضلل الله) ومن يخذله من الفساق والفجرة (فما له من هاد) أو ذلك الكائن من الخشية والرجاء
(٣٩٥)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 390 391 392 393 394 395 396 397 398 399 400 ... » »»