الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل - الزمخشري - ج ٣ - الصفحة ٣٩٢
* قل الله أعبد مخلصا له ديني * فاعبدوا ما شئتم من دونه قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين * لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل ذلك يخوف الله به عباده يا عباد فاتقون * والذين اجتنبوا الطاغوت
____________________
وذلك أن الأمر بالإخلاص وتكليفه شئ والأمر به ليحرز القائم به قصب السبق في الدين شئ، وإذا اختلف وجها الشئ وصفتاه ينزل بذلك منزلة شيئين مختلفين، ولك أن تجعل اللام مزيدة مثلها في أردت لأن أفعل ولا تزاد إلا مع أن خاصة دون الاسم الصريح كأنها زيدت عوضا من ترك الأصل إلى ما يقوم مقامه، كما عوض السين في اسطاع عوضا من ترك الأصل الذي هو أطوع، والدليل على هذا الوجه محبيئه بغير لام في قوله - وأمرت أن أكون من المسلمين، وأمرت أن أكون من المؤمنين، وأمرت أن أكون أول من أسلم - وفي معناه أوجه، أن أكون أول من أسلم في زماني ومن قومي لأنه أول من خالف دين آبائه وخلع الأصنام وحطمها، وأن أكون أول الذين دعوتهم إلى الإسلام إسلاما، وأن أكون أول من دعا نفسه إلى ما دعا إليه غيره لأكون مقتدى بي في قولي وفعلى جميعا، ولا تكون صفتي صفة الملوك الذين يأمرون بما لا يفعلون، وأن أفعل ما أستحق به الأولية من أعمال السابقين دلالة على السبب بالمسبب: يعنى أن الله أمرني أن أخلص له الدين من الشرك والرياء وكل شوب بدليلي العقل والوحي. فإن عصيت ربى بمخالفة الدليلين استوجبت عذابه فلا أعصيه ولا أتابع أمركم وذلك حين دعوه إلى دين آبائه. فإن قلت: ما معنى التكرير في قوله - قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين - وقوله (قل الله أعبد مخلصا له ديني)؟ قلت: ليس بتكرير لأن الأولى إخبار بأنه مأمور من جهة الله بإحداث العبادة والإخلاص، والثاني إخبار بأنه يختص الله وحده دون غيره بعبادته مخلصا له دينه، ولدلالته على ذلك قدم المعبود على فعل العبادة وأخره في الأول، فالكلام أولا واقع في الفعل نفسه وإيجاده، وثانيا فيمن يفعل الفعل لأجله ولذلك رتب عليه قوله (فاعبدوا ما شئتم من دونه) والمراد بهذا الأمر الوارد على وجه التخيير: المبالغة في الخذلان والتخلية لعى ما حققت فيه القول مرتين. قل إن الكاملين في الخسران الجامعين لوجوهه وأسبابه هم (الذين خسروا أنفسهم) لوقوعها في هلكة لا هلكة بعدها (و) خسروا (أهليهم) لأنهم كانوا من أهل النار فقد خسروهم كما خسروا أنفسهم، وإن كانوا من أهل في الجنة فقد ذهبوا عنهم ذهابا لا رجوع بعده إليهم. وقيل وخسروهم لأنهم لم يدخلوا مدخل المؤمنين الذين لهم أهل في الجنة: يعنى وخسروا أهليهم الذين كانوا يكونون لهم لو آمنوا، ولقد وصف خسرانهم بغاية الفظاعة في قوله (ألا ذلك هو الخسران المبين) حيث استأنف الجملة وصدرها بحرف التنبيه ووسط الفصل بين المبتدأ والخبر وعرف الخسران ونعته بالمبين (ومن تحتهم) أطباق من النار هي (ظلل) لآخرين (ذلك) العذاب هو الذي يتوعد الله (به عباده) ويخوفهم ليجتنبوا ما يوقعهم فيه (يا عباد فاتقون) ولا تتعرضوا لما يوجب سخطي، وهذه عظة من الله تعالى ونصيحة بالغة. وقرئ يا عبادي (الطاغوت) فعلوت من الطغيان كالملكوت والرحموت إلا أن فيها قلبا بتقديم اللام على العين أطلقت على الشيطان أو الشياطين لكونها مصدرا
(٣٩٢)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 387 388 389 390 391 392 393 394 395 396 397 ... » »»