الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل - الزمخشري - ج ٣ - الصفحة ٣٨٣
من العالين * قال أنا خير منه
____________________
هذا مما عملته وهذا مما عملته يداك، ومنه قوله تعالى - مما عملت أيدينا، ولما خلقت بيدي - فإن قلت: فما معنى قوله ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي؟ قلت: الوجه الذي استنكر له إبليس السجود لآدم واستنكف منه أنه سجود لمخلوق فذهب بنفسه وتكبر أن يكون سجوده لغير الخالق، وانضم إلى ذلك أن آدم مخلوق من طين وهو مخلوق من نار، ورأى للنار فضلا على الطين فاستعظم أن يسجد لمخلوق مع فضله عليه في المنصب، وزل عنه أن الله سبحانه حين أمر به أعز عباده عليه وأقربهم منه زلفى وهم الملائكة وهم أحق بأن يذهبوا بأنفسهم عن التواضع للبشر الضئيل ويستنكفوا من السجود له من غيرهم ثم لم يفعلوا وتبعوا أمر الله وجعلوه قد أم أعينهم ولم يلتفوا إلى التفاوت بين الساجد والمسجود له تعظيما لأمر ربهم وإجلالا لخطابه، كان هو مع انحطاطه عن مراتبهم حرى بأن يقتدى بهم ويقتفى أثرهم ويعلم أنهم في السجود لمن هو دونهم بأمر الله أو غل في عبادته منهم في السجود له لما فيه من طرح الكبرياء وخفض الجناح، فقيل له: ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي؟ أي ما منعك من السجود لشئ هو كما تقول مخلوق خلقته بيدي لاشك في كونه مخلوقا امتثالا لأمري وإعظاما لخطابي كما فعلت الملائكة، فذكر له ما تركه من السجود مع ذكر العلة التي تشبث بها في تركه، وقيل له: لم تركته مع وجود هذه العلة وقد أمرك الله به: يعنى كان عليك أن تعتبر أمر الله ولا تعتبر هذه العلة، ومثاله أن يأمر الملك وزيره أن يزور بعض سقاط الحشم فيمتنع اعتبارا لسقوطه، فيقول له: ما منعك أن تتواضع لم لا يخفى على سقوطه؟ يريد هلا اعتبرت أمري وخطابي وتركت اعتبار سقوطه؟ وفيه أنى خلقته بيدي فأنا أعلم بحاله، ومع ذلك أمرت الملائكة بأن يسجدوا له لداعى حكمة دعاني إليه من إنعام عليه بالتكرمة السنية وابتلاء للملائكة، فمن أنت حتى يصرفك عن السجود له ما لم يصرفني عن الأمر بالسجود له. وقيل معنى لما خلقت بيدي: لم خلقت بغير واسطة. وقرئ بيدي كما قرئ بمصرخي. وقرئ بيدي على التوحيد (من العالين) ممن علوت وفقت، فأجاب بأنه من العالين حيث (قال أنا خير منه) وقيل استكبرت الآن أم لم تزل منذ كنت من المستكبرين، ومعنى الهمزة التقرير. وقرئ استكبرت بحذف حرف الاستفهام لأن أم تدل عليه أو بمعنى الإخبار. هذا على سبيل الأولى: أي لو كان مخلوقا من نار لما سجدت له لأنه مخلوق مثلي فكيف أسجد لمن هو دوني لأنه من طين والنار تغلب الطين وتأكله، وقد جرت الجملة الثانية من
(٣٨٣)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 378 379 380 381 382 383 384 385 386 387 388 ... » »»