الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل - الزمخشري - ج ٣ - الصفحة ٣٠٣
السيئات لهم عذاب شديد ومكر أولئك هو يبور * والله خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم جعلكم أزواجا وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب إن ذلك على الله يسير * وما يستوي البحران هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج
____________________
مكر فعل غير متعد لا يقال مكر فلان عمله فبم نصب (السيئات). قلت: هذه صفة للمصدر أو لما في حكمه كقوله تعالى - ولا يحيق المكر السئ إلا بأهله - أصله: والذين مكروا المكرات السيئات أو أصناف المكر السيئات، وعني بهن مكرات قريش حين اجتمعوا في دار الندوة وتداورا الرأي في إحدى ثلاث مكرات يمكرونها برسول الله صلى الله عليه وسلم، إما إثباته أو قتله أو إخراجه كما حكى الله سبحانه عنهم - وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك - (ومكر أولئك هو يبور) يعني ومكر أولئك الذين مكروا تلك المكرات الثلاث هو خاصة. يبور: أي كسد ويفسد دون مكر الله بهم حين أخرجهم من مكة وقتلهم وأثبتهم في قليب بدر فجمع عليهم مكراتهم جميعا وحقق فيهم قوله - ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين - وقوله - ولا يحق المكر السئ إلا بأهله (أزواجا) أصنافا أو ذكرانا وإناثا كقوله تعالى - أو يزوجهم ذكرانا وإناثا - وعن قتادة رضي الله عنه زوج بعضهم بعضا (بعلمه) في موضع الحال: أي إلا معلومة له. فإن قلت: ما معنى قوله - وما يعمر من معمر - قلت: معناه وما يعمر من أحد وإنما سماه معمرا بما هو سائر إليه. فإن قلت: الانسان إما معمر أي طويل العمر، أو منقوص العمر أي قصيره، فإما أن يتعاقب عليه التعمير وخلافه فمحال فكيف صح قوله (وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره)؟ قلت: هذا من الكلام المتسامح فيه ثقة في تأويله بأفهام السامعين واتكالا على تسديدهم معناه بعقولهم وأنه لا يلتبس عليهم إحالة الطول والقصر في عمر واحد، وعليه كلام الناس المستفيض يقولون:
لا يثيب الله عبدا ولا يعاقبه إلا بحق، وما تنعمت بلدا ولا اجتويته إلا قل فيه ثوائي. وفيه تأويل آخر وهو أنه لا يطول عمر إنسان ولا يقصر إلا في كتاب وصورته أن يكتب في اللوح إن حج فلان أو غزا فعمره أربعون سنة، وإن حج وغزا فعمره ستون سنة، فإذا جمع بينهما فبلغ الستين فقد عمر، وإذا أفرد أحدهما فلم يتجاوز به الأربعون فقد نقص من عمره الذي هو الغاية وهو الستون، وإليه أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله " إن الصدقة والصلة تعمران الديار وتزيدان في الأعمار " وعن كعب أنه قال حين طعن عمر رضي الله عنه: لو أن عمر دعا الله لاخر في أجله، فقيل لكعب: أليس قد قال الله - إذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون - قال:
فقد قال الله - وما يعمر من معمر - وقد استفاض على الألسنة: أطال الله بقاءك وفسح في مدتك وما أشبهه. وعن سعيد بن جبير رضي الله عنه: يكتب في الصحيفة عمره كذا وكذا سنة، ثم يكتب في أسفل ذلك ذهب يوم ذهب يومان حتى يأتي على آخره. وعن قتادة رضي الله عنه: المعمر من بلغ ستين سنة، والمنقوص من عمره من يموت قبل ستين سنة. والكتاب: اللوح عن ابن عباس رضي الله عنهما. ويجوز أن يراد بكتاب الله علم الله أو صحيفة الانسان.
وقرئ ولا ينقص على تسمية الفاعل من عمره بالتخفيف. ضرب البحرين العذب والمالح مثلين للمؤمن والكافر،
(٣٠٣)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 298 299 300 301 302 303 304 305 306 307 308 ... » »»