الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل - الزمخشري - ج ٣ - الصفحة ١٢٧
قال ربى أعلم بما تعملون. فكذبوه فأخذهم عذاب يوم الظلة إنه كان عذاب يوم عظيم. إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين. وإن ربك لهو العزيز الرحيم.
وإنه لتنزيل رب العالمين. نزل به الروح الأمين.
____________________
وقيل هو بالرومية العدل. يقال بخسته حقه: إذا نقصته إياه، ومنه قيل للمكس البخس، وهو عام في كل حق ثبت لأحد أن لا يهضم وفى كل ملك أن لا يغصب عليه مالكا ولا يتحيف منه ولا يتصرف فيه إلا بإذنه تصرفا شرعيا.
يقال عثا في الأرض وعثى وعاث وذلك نحو قطع الطريق والغارة وإهلاك الزروع، وكانوا يفعلون ذلك مع توليهم أنواع الفساد فنهوا عن ذلك. وقرئ الجبلة بوزن الإبلة والجبلة بوزن الخلقة ومعناهن واحد: أي ذوي الجبلة وهو كقولك والخلق الأولين. فإن قلت: هل اختلف المعنى بإدخال الواو ههنا وتركها في قصة ثمود؟
قلت: إذا أدخلت الواو فقد قصد معنيان كلاهما مناف للرسالة عندهم التسحير والبشرية، وأن الرسول لا يجوز أن يكون مسحرا ولا يجوز أن يكون بشرا، وإذا تركت الواو فلم يقصد إلا معنى واحد وهو كونه مسحرا ثم قرر بكونه بشرا مثلهم. فإن قلت: إن المخففة من الثقيلة ولامها كيف تفرقتا على فعل الظن وثاني مفعوليه؟ قلت:
أصلهما أن يتفرقا على المبتدأ والخبر كقولك: إن زيد لمنطلق، فلما كان البابان أعني باب كان وباب ظننت من جنس باب المبتدأ والخبر فعل ذلك في البابين، فقيل إن كان زيد لمنطلقا وإن ظننته لمنطقا. قرئ كسفا بالسكون والحركة وكلاهما جمع كسفة نحو قطع وسدر. وقيل الكسف والكسفة كالريع والريعة وهى القطعة، وكسفه قطعه والسماء السحاب أو المظلة، وما كان طلبهم ذلك إلا لتصميمهم على الجحود والتكذيب ولو كان فيهم أدنى ميل إلى التصديق لما أخطروه ببالهم فضلا أن يطلبوه. والمعنى: إن كنت صادقا أنك نبي فادع الله أن يسقط علينا كسفا من السماء (ربى أعلم بما تعملون) يريد أن الله أعلم بأعمالكم وبما تستوجبون عليها من العقاب، فإن أراد أن يعاقبكم بإسقاط كسف من السماء فعل، وإن أراد عقابا آخر فإليه الحكم والمشيئة (فأخذهم) الله بنحو ما اقترحوا من عذاب الظلة إن أرادوا بالسماء السحاب، وإن أرادوا المظلة فقد خالف بهم عن مقترحهم. يروى أنه حبس عنهم الريح سبعا وسلط عليهم الومد فأخذ بأنفاسهم لا ينفعهم ظل ولا ماء ولا سرب، فاضطروا إلى أن خرجوا إلى البرية فأظلتهم سحابة وجدوا لها بردا ونسيما فاجتمعوا تحتها فأمطرت عليهم نارا فاحترقوا. وروى أن شعيبا بعث إلى أمتين أصحاب مدين وأصحاب الأيكة فأهلكت مدين بصيحة جبريل وأصحاب الأيكة بعذاب يوم الظلة. فإن قلت: كيف كرر في هذه السورة في أول كل قصة وآخرها ما كرر؟ قلت: كل قصة منها كتنزيل برأسه وفيها من لاعتبار مثل ما في غيرها، فكانت كل واحدة منها تدلى بحق في أن تفتتح بما افتتحت به صاحبتها وأن تختم بما اختتمت به، ولأن في التكرير تقريرا للمعاني في الأنفس وتثبيتا لها في الصدور، ألا ترى أنه لا طريق إلى تحفظ العلوم إلا ترديد ما يراد تحفظه منها، وكلما زاد ترديده كان أمكن له في القلب وأرسخ في الفهم وأثبت للذكر وأبعد من النسيان، ولأن هذه القصص طرقت بها آذان وقر عن الإنصات للحق وقلوب غلف عن تدبره فكوثرت بالوعظ والتذكير وروجعت بالترديد والتكرير لعل ذلك يفتح أذنا أو يفتق ذهنا أو يصقل عقلا طال عهده بالصقل أو يجلو فهما قد غطى عليه تراكم الصدأ (وإنه) وإن هذا التنزيل: يعنى ما نزل من هذه القصص والآيات والمراد
(١٢٧)
مفاتيح البحث: العزّة (1)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 122 123 124 125 126 127 128 129 130 131 132 ... » »»