الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل - الزمخشري - ج ٣ - الصفحة ١١٦
وإن ربك لهو العزيز الرحيم. واتل عليهم نبأ إبراهيم. إذ قال لأبيه وقومه ما تعبدون.
قالوا نعبد أصناما فنظل لها عاكفين. قال هل يسمعونكم إذ تدعون. أو ينفعونكم أو يضرون. قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون. قال أفرأيتم ما كنتم تعبدون.
أنتم وآباؤكم الأقدمون. فإنهم عدو لي.
____________________
آمن بالله. وبنو إسرائيل الذين كانوا أصحاب موسى المخصوصين بالإنجاء قد سألوه بقرة يعبدونها واتخذوا العجل وطلبوا رؤية الله جهرة (وإن ربك لهو العزيز) المنتقم من أعدائه (الرحيم) بأوليائه. كان إبراهيم عليه السلام يعلم أنهم عبدة أصنام، ولكنه سألهم ليريهم أن ما يعبدونه ليس من استحقاق العبادة في شئ كما تقول للتاجر ما مالك وأنت تعلم أن ماله الرقيق، ثم تقول له الرقيق جمال وليس بمال. فإن قلت: (ما تعبدون) سؤال عن المعبود فحسب فكان القياس أن يقولوا أصناما كقوله تعالى - ويسئلونك ماذا ينفقون قل العفو - ماذا قال ربكم قالوا الحق - ماذا أنزل ربكم قالوا خيرا - قلت هؤلاء قد جاءوا بقصة أمرهم كاملة كالمبتهجين بها والمفتخرين، فاشتملت على جواب إبراهيم وعلى ما قصدوه من إظهار ما في نفوسهم من الابتهاج والافتخار، ألا تراهم كيف عطفوا على قولهم نعبد (فنظل لها عاكفين) ولم يقتصروا على زيادة نعبد وحده، ومثاله أن تقول لبعض الشطار: ما تلبس في بلادك؟ فيقول: ألبس البرد الأتحمي فأجر ذيله بين جواري الحي. وإنما قالوا نظل لأنهم كانوا يعبدونها بالنهار دون الليل. لابد في (يسمعونكم) من تقدير حذف المضاف معناه: هل يسمعون دعاءكم. وقرأ قتادة يسمعونكم:
أي هل يسمعونكم الجواب عن دعائكم وهل يقدرون على ذلك؟ وجاء مضارعا مع إيقاعه في إذ على حكاية الحال الماضية، ومعناه استحضروا الأحوال الماضية التي كنتم تدعونها فيها وقولوا هل سمعوا أو أسمعوا قط، وهذا أبلغ في التبكيت. لما أجابوه بجواب المقلدين لآبائهم قال لهم: رقوا أمر تقليدكم هذا إلى أقصى غاياته وهى عبادة الأقدمين الأولين من آبائكم، فإن التقدم والأولية لا يكون برهانا على الصحة والباطل لا ينقلب حقا بالقدم وما عبادة من عبد هذه الإصنام إلا عبادة أعداء له، ومعنى العداوة قوله تعالى - كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا - ولأن المغرى على عبادتها أعدى أعداء الإنسان وهو الشيطان، وإنما قال (عدو لي) تصويرا للمسألة في نفسه على معنى إني فكرت في أمري فرأيت عبادتي لها عبادة للعدو فاجتنبتها وآثرت عبادة من الخير كله منه، وأراهم بذلك أنها نصيحة نصح بها نفسه أولا وبنى عليها تدبير أمره لينظروا فيقولوا ما نصحنا إبراهيم إلا بما نصح به نفسه، وما أراد لنا إلا ما أراد لروحه ليكون أدعى لهم إلى القبول وأبعث على الاستماع منه، ولو قال: فإنه عدو لكم لم يكن بتلك المثابة، ولأنه دخل في باب من التعريض، وقد يبلغ التعريض للمنصوح ما لا يبلغه التصريح لأنه يتأمل فيه، فربما قاده التأمل إلى التقبل. ومنه ما يحكى عن الشافعي رضى الله تعالى عنه أن رجلا واجهه بشئ فقال: لو كنت بحيث أنت لاحتجت إلى أدب. وسمع رجل ناسا يتحدثون في الحجر فقال: ما هو ببيتي ولا ببيتكم والعدو والصديق يجيئان في معنى الوحدة والجماعة، قال:
وقوم على ذوي مئرة * أراهم عدوا وكانوا صديقا
(١١٦)
مفاتيح البحث: العزّة (1)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 111 112 113 114 115 116 117 118 119 120 121 ... » »»