الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل - الزمخشري - ج ٢ - الصفحة ٥٨١
الصالحين. وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات
____________________
الأشياء كلها على ما يقتضيه علمنا وحكمتنا: أي يغوصون له في البحار فيستخرجون الجواهر ويتجاوزون ذلك إلى الأعمال والمهن وبناء المدائن والقصور واختراع الصنائع العجيبة كما قال - يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل - والله حافظهم أن يزيغوا عن أمره أو يبدلوا أو يغيروا أو يوجد منهم فساد في الجملة فيما هم مسخرون فيه: أي ناداه بأني مسني الضر. وقرئ إني بالكسر على إضمار القول أو لتضمن النداء معناه. والضر بالفتح الضرر في كل شئ، وبالضم الضرر في النفس من مرض وهزال فرق بين البناءين لافتراق المعنيين. ألطف في السؤال حيث ذكر نفسه بما يوجب الرحمة وذكر ربه بغاية الرحمة ولم يصرح بالمطلوب. ويحكى أن عجوزا تعرضت لسليمان بن عبد الملك فقالت: يا أمير المؤمنين مشت جرذان بيتي على العصا، فقال لها: ألطفت في السؤال لا جرم لأردنها تثب وثب الفهود وملأ بيتها حبا. كان أيوب عليه السلام روميا من ولد إسحاق بن يعقوب عليهم السلام، وقد استنبأه الله وبسط عليه الدنيا وكثر أهله وماله، كان له سبعة بنين وسبع بنات، وله أصناف البهائم وخمسمائة فدان يتبعها خمسمائة عبد لكل عبد امرأة وولد ونخيل، فابتلاه الله بذهاب ولده، انهدم عليهم البيت فهلكوا، وبذهاب ماله وبالمرض في بدنه ثماني عشرة سنة، وعن قتادة: ثلاث عشرة سنة، وعن مقاتل: سبعا وسبعة أشهر وسبع ساعات. وقالت له امرأته يوما: لو دعوت الله؟ فقال لها: كم كانت مدة الرخاء؟ فقالت ثمانين سنة، فقال:
أنا استحيى من الله أن أدعوه وما بلغت مدة بلائي مدة رخائي، فلما كشف الله عنه أحيا ولده ورزقه مثلهم ونوافل منهم. وروى أن امرأته ولدت بعد ستة وعشرين ابنا: أي لرحمتنا العابدين وإنا نذكرهم بالإحسان لا ننساهم أو رحمة منا لأيوب وتذكرة لغيره من العابدين ليصبروا كما صبر حتى يثابوا كما أثيب في الدنيا والآخرة. قيل في ذي الكفل هو إلياس، وقيل زكريا، وقيل يوشع بن نون، وكأنه سمى بذلك لأنه ذو الحظ من الله والمجدود على الحقيقة. وقيل كان له ضعف عمل الأنبياء في زمانه وضعف ثوابهم. وقيل خمسة من الأنبياء ذوو اسمين إسرائيل ويعقوب إلياس وذو الكفل عيسى والمسيح يونس وذو النون محمد وأحمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين (النون) الحوت فأضيف إليه، برم بقومه لطول ما ذكرهم فلم يذكروا وأقاموا على كفرهم فراغمهم وظن أن ذلك يسوغ حيث لم يفعله إلا غضبا لله وأنفة لدينه وبغضا للكفر وأهله، وكان عليه أن يصابر وينتظر الإذن من الله في المهاجرة عنهم فابتلى ببطن الحوت. ومعنى مغاضبته لقومه أنه أغضبهم بمفارقته لخوفهم حلول العقاب عليهم عندها. وقرأ أبو شرف مغضبا. قرئ نقدر ونقدر مخففا ومثقلا، ويقدر بالياء بالتخفيف، ويقدر ويقدر على البناء للمفعول مخففا ومثقلا، وفسرت بالتضييق عليه وبتقدير الله عقوبة. وعن ابن عباس: أنه دخل على معاوية فقال: لقد ضربتني أمواج القرآن البارحة فغرقت فيها فلم أجد لنفسي خلاصا إلا بك، قال: وما هي يا معاوية؟ فقرأ هذه الآية وقال: أو يظن نبي الله أن لا يقدر عليه؟ قال: هذا من القدر لا من القدرة، والمخفف يصح أن يفسر بالقدرة على معنى أن لن نعمل فيه قدرتنا، وأن يكون من باب التمثيل بمعنى فكانت حاله ممثلة بحال من ظن أن لن نقدر عليه في مراغمته قومه من غير انتظار لأمر الله. ويجوز أن يسبق ذلك إلى وهمه بوسوسة الشيطان ثم يردعه ويرده بالبرهان كما يفعل المؤمن المحقق بنزغات الشيطان وما يوسوس إليه في كل وقت، ومنه قوله تعالى - وتظنون بالله الظنونا - والخطاب للمؤمنين (في الظلمات) أي في الظلمة الشديدة المتكاثفة في بطن الحوت
(٥٨١)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 576 577 578 579 580 581 582 583 584 585 586 ... » »»