الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل - الزمخشري - ج ٢ - الصفحة ٥٧٨
إن كنتم فاعلين. قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم. وأرادوا به كيدا فجعلناهم الأخسرين. ونجيناه ولو طا إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين. ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة وكلا جعلنا صالحين. وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا
____________________
لبيان المتأفف به: أي لكم ولآلهتكم هذا التأفف. أجمعوا رأيهم لما غلبوا بإهلاكه، وهكذا المبطل إذا قرعت شبهته بالحجة وافتضح لم يكن أحد أبغض إليه من المحق ولم يبق له مفزع إلا مناصبته كما فعلت قريش برسول الله صلى الله عليه وسلم حين عجزوا عن المعارضة، والذي أشار بإحراقه نمروذ. وعن ابن عمر رضي الله عنهما رجل من أعراب العجم يريد الأكراد. وروى أنهم حين هموا بإحراقه حبسوه ثم بنوا بيتا كالحظيرة بكوثا، وجمعوا شهرا أصناف الخشب الصلاب حتى إن كانت المرأة لتمرض فتقول: إن عافاني الله لأجمعن حطبا لإبراهيم عليه السلام، ثم أشعلوا نارا عظيمة كادت الطير تحترق في الجو من وهجها، ثم وضعوه في المنجنيق مقيدا مغلولا فرموا به فيها فناداها جبريل عليه السلام - يا نار كوني بردا وسلاما - ويحكى ما أحرقت منه إلا وثاقه. وقال له جبريل عليه السلام حين رمى به: هل لك حاجة؟ فقال: أما إليك فلا، قال: فسل ربك، قال: حسبي من سؤالي علمه بحالي. وعن ابن عباس رضي الله عنه: إنما نجا بقوله: حسبي الله ونعم الوكيل. وأطل عليه نمروذ من الصرح فإذا هو في روضة ومعه جليس له من الملائكة فقال: إني مقرب إلى إلهك فذبح أربعة ألاف بقرة وكف عن إبراهيم.
وكان إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه إذ ذاك ابن ست عشرة سنة، واختاروا المعاقبة بالنار لأنها أهول ما يعاقب به وأفظعه ولذلك جاء " لا يعذب بالنار إلا خالقها " ومن ثم قالوا (إن كنتم فاعلين) أي إن كنتم ناصرين آلهتكم نصرا مؤزرا فاختاروا له أهول المعاقبات وهى الإحراق بالنار وإلا فرطتم في نصرتها ولهذا عظموا النار وتكلفوا في تشهير أمرها وتفخيم شأنها ولم يألوا جهدا في ذلك. جعلت النار لمطاوعتها فعل الله وإرادته كمأمور أمر بشئ فأمتثله والمعنى ذات برد وسلام فبولغ في ذلك كأن في ذاتها برد وسلام، والمراد ابردي فيسلم منك إبراهيم أو ابردي بردا غير ضار، وعن ابن عباس رضي الله عنه لو لم يقل ذلك لأهلكته ببردها. فإن قلت: كيف بردت النار وهى نار؟
قلت: نزع الله عنها طبعها الذي طبعها عليه من الحر والإحراق وأبقاها على الإضاءة والإشراق والاشتعال كما كانت، والله على كل شئ قدير. ويجوز أن يدفع بقدرته عن جسم إبراهيم عليه السلام أذى حرها ويذيقه فيها عكس ذلك كما يفعل بخزنة جهنم، ويدل عليه قوله (على إبراهيم)، وأرادوا أن يكيدوه ويمكروا به فما كانوا إلا مغلوبين مقهورين غالبوه بالجدال فغلبه الله ولقنه بالمبكت وفزعوا إلى القوة والجبروت فنصره وقواه نجيا من العراق إلى الشام، وبركاته الواصلة إلى العالمين أن أكثر الأنبياء عليهم السلام بعثوا فيه فانتشرت في العالمين شرائعهم وآثارهم الدينية وهى البركات الحقيقة. وقيل بارك الله فيه بكثرة الماء والشجر والثمر والخصب وطيب عيش الغنى والفقير. وعن سفيان أنه خرج إلى الشام فقيل له إلى أين فقال: إلى بلد يملأ فيه الجراب بدرهم. وقيل ما من ماء عذب إلا وينبع أصله من تحت الصخرة التي ببيت المقدس. وروى أنه نزل بفلسطين ولوط بالمؤتفكة وبينهما مسيرة يوم وليلة. النافلة ولد الولد. وقيل سأل إسحاق فأعطيه وأعطى يعقوب نافلة، أي زيادة وفضلا من غير سؤال (يهدون بأمرنا) فيه أن من صلح ليكون قدوة في دين الله فالهداية محتومة عليه مأمور هو بها من جهة
(٥٧٨)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 573 574 575 576 577 578 579 580 581 582 583 ... » »»