الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل - الزمخشري - ج ٢ - الصفحة ٥٧٧
قالوا فأتوا به على أعين الناس لعلهم يشهدون. قالوا أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم. قال بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون. فرجعوا إلى أنفسهم فقالوا إنكم أنتم الظالمون. ثم نكثوا على رؤوسهم لقد علمت ما هؤلاء ينطقون.
قال أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئا ولا يضركم أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون. قالوا حرقوه وانصروا آلهتكم
____________________
فاعل يقال لأن المراد الاسم لا المسمى (على أعين الناس) في محل الحال بمعنى معاينا مشاهدا: أي بمرأى منهم ومنظر. فإن قلت: فما معنى الاستعلاء في علي؟ قلت: هو وارد على طريق المثل: أي يثبت إتيانه في الأعين ويتمكن فيها ثبات الراكب على المركوب وتمكنه منه (لعلهم يشهدون) عليه بما سمع منه وبما فعله أو يحضرون عقوبتنا له. روى أنه الخبر بلغ نمروذ وأشراف قومه فأمروا بإحضاره. هذا من معاريض الكلام ولطائف هذا النوع لا يتغلغل فيها إلا أذهان الراضة من علماء المعاني، والقول فيه أن قصد إبراهيم صلوات الله عليه لم يكن إلى أن ينسب الفعل الصادر عنه إلى الصنم، وإنما قصد تقريره لنفسه وإثباته لها على أسلوب تعريضي يبلغ فيه غرضه من إلزامهم الحجة وتبكيتهم، وهذا كما لو قال لك صاحبك وقد كتبت كتابا بخط رشيق وأنت شهير بحسن الخط:
أأنت كتبت هذا؟ وصاحبك أمي لا يحسن الخلط ولا يقدر إلا على خرمشة فاسدة، فقلت له: بل كتبته أنت، كأن قصدك بهذا الجواب تقريره لك مع الاستهزاء به لا نفيه عنك وإثباته للأمي أو المخرمش، لأن إثباته والأمر دائر بينكما للعاجز منكما استهزاء به وإثبات للقادر. ولقائل أن يقول: غاظته تلك الأصنام حين أبصرها مصطفة مرتبة وكان غيظ كبيرها أكبر وأشد لما رأى من زيادة تعظيمهم له، فأسند الفعل إليه لأنه هو الذي تسبب لاستهانته بها وحطمه لها، والفعل كما يسند إلى مباشره يسند إلى الحامل عليه. ويجوز أن يكون حكاية لما يقود إلى تجويزه مذهبهم كأنه قال لهم: ما تنكرون أن يفعله كبيرهم، فإن من حق من يعبد ويدعى إلها أن يقدر على هذا وأشد منه. ويحكى أنه قال: فعله كبيرهم هذا غضب أن تعبد معه هذه الصغار وهو أكبر منها. وقرأ محمد بن السميفع فعله كبيرهم: يعنى فلعله: أي فلعل الفاعل كبيرهم. فلما ألقمهم الحجر وأخذ بمخانقهم رجعوا إلى أنفسهم فقالوا: أنتم الظالمون على الحقيقة لا من ظلمتموه حين قلتم - من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين - نكسته:
قلبته فجعلت أسفله أعلاه وانتكس انقلب: أي استقاموا حين رجعوا إلى أنفسهم وجاءوا بالفكرة الصالحة، ثم انتكسوا وانقلبوا عن تلك الحالة فأخذوا في المجادلة بالباطل والمكابرة، وأن هؤلاء مع تقاصر حالها عن حال الحيوان الناطق آلهة معبودة مضارة منهم، أو انتكسوا عن كونهم مجادلين لإبراهيم عليه السلام مجادلين عنه حين نفوا عنها القدرة على النطق أو قلبوا على رؤوسهم حقيقة لفرط إطراقهم خجلا وانكسارا وانخزالا مما بهتهم به إبراهيم عليه السلام فما أحاروا جوابا إلا ما هو حجة عليهم. وقرئ نكسوا بالتشديد ونكسوا على لفظ ما سمى فاعله: أي نكسوا أنفسهم على رؤوسهم، قرأ به رضوان بن عبد المعبود (أف) صوت إذا صوت به علم أن صاحبه متضجر أضجره ما رأى من ثباتهم على عبادتها بعد انقطاع عذرهم وبعد وضوح الحق وزهوق الباطل فتأفف بهم، واللام
(٥٧٧)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 572 573 574 575 576 577 578 579 580 581 582 ... » »»