الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل - الزمخشري - ج ٢ - الصفحة ٥٣٣
وما تلك بيمينك يا موسى؟ قال هي عصاي أتوكؤا عليها وأهش بها على غنمي ولى فيها مآرب أخرى. قال ألقها يا موسى فألقاها فإذا حية تسعى. قال خذها ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولى. واضمم يدك إلى جناحك تخرج بيضاء من غير سوء آية
____________________
نهى موسى عن التكذيب بالبعث أو أمره بالتصديق، فكيف صلحت هذه العبارة لأداء هذا المقصود؟ قلت:
فيه وجهان: أحدهما أن صد الكافر عن التصديق بها سبب للتكذيب فذكر السبب ليدل على المسبب. والثاني أن صد الكافر مسبب عن رخاوة الرجل في الدين ولين شكيمته. فذكر المسبب ليدل على السبب كقولهم لا أرينك ههنا، المراد نهيه عن مشاهدته والكون بحضرته وذلك سبب رؤيته إياه، فكان ذكر المسبب دليلا على السبب كأنه قيل: فكن شديد الشكيمة صليب المعجم حتى لا يتلوح منك لمن يكفر بالبعث أنه يطمع في صدك عما أنت عليه: يعنى أن من لا يؤمن بالآخرة هم الجم الغفير، إذ لا شئ أطم على الكفرة ولا هم أشد له نكيرا من البعث، فلا يهولنك وفور دهمائهم ولا عظم سوادهم ولا تجعل الكثرة مزلة قدمك. واعلم أنهم وإن كثروا تلك الكثرة فقدوتهم فيما هم فيه هو الهوى واتباعه لا البرهان وتدبره. وفى هذا حث عظيم على العمل بالدليل، وزجر بليغ عن التقليد وإنذار بأن الهلاك والردى مع التقليد وأهله (وما تلك بيمينك يا موسى) كقوله تعالى - وهذا بعلى شيخا - في انتصاب الحال بمعنى الإشارة، ويجوز أن تكون تلك اسما موصولا صلته بيمينك، إنما سأله ليريه عظم ما يخترعه عز وعلا في الخشبة اليابسة من قلبها حية نضناضة، وليقرر في نفسه المباينة البعيدة بين المقلوب عنه والمقلوب إليه وينبهه على قدرته الباهرة، ونظيره أن يريك الزراد زبرة من حديد ويقول لك ما هي؟ فتقول زبرة حديد، ثم يريك بعد أيام لبوسا مسردا فيقول لك هي تلك الزبرة صيرتها إلى ما ترى من عجيب الصنعة وأنيق السرد. قرأ ابن أبي إسحاق عصى على لغة هذيل، ومثله يا بشرى، أرادوا كسر ما قبل ياء المتكلم فلم يقدروا عليه فقلبوا الألف إلى أخت الكسرة، وقرأ الحسن (عصاي) بكسر الياء لالتقاء الساكنين وهو مثل قراءة حمزة بمصرخي، وعن ابن أبي إسحاق سكون الياء (أتوكأ عليها) أعتمد عليها إذا أعييت أو وقفت على رأس القطيع وعند الطفرة. هش الورق خبطه: أي أخبطه على رؤوس غنمي تأكله. وعن لقمان بن عاد: أكلت حقا وابن لبون وجذع، وهشة نخب وسيلا دفع، والحمد لله من غير شبع، سمعته من غير واحد من العرب. ونخب واد قريب من الطائف كثير السدر. وفى قراءة النخعي أهش وكلاهما من هش الخبز يهش إذا كان ينكسر لهشاشته، وعن عكرمة أهس بالسين: أي أنحى عليها زاجرا لها. والهس زجر الغنم. ذكر على التفصيل والإجمال المنافع المتعلقة بالعصا كأنه أحس بما يعقب هذا السؤال من أمر عظيم يحدثه الله تعالى فقال: ما هي إلا عصا لا تنفع إلا منافع بنات جنسها وكما تنفع العيدان، ليكون جوابه مطابقا للغرض الذي فهمه من فحوى كلام ربه ويجوز أن يريد عز وجل أن يعدد المرافق الكثيرة التي علقها بالعصا ويستكثرها ويستعظمها، ثم يريه على عقب ذلك الآية العظيمة كأنه يقول له:
أين أنت عن هذه المنفعة العظمى والمأربة الكبرى المنسية عندها كل منفعة ومأربة كنت تعتد بها وتحتفل بشأنها؟
وقالوا: إنما سأله ليبسط منه ويقلل هيبته، وقالوا: إنما أجمل موسى ليسأله عن تلك المآرب فيزيد في إكرامه، وقالوا: انقطع لسانه بالهيبة فأجمل، وقالوا: اسم العصا نبعة. وقيل في المآرب كانت ذات شعبتين ومحجن
(٥٣٣)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 528 529 530 531 532 533 534 535 536 537 538 ... » »»