الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل - الزمخشري - ج ٢ - الصفحة ٢٣٨
إن كنتم صادقين بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله كذلك كذب الذين من قبلهم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين ومنهم من يؤمن به ومنهم من لا يؤمن به وربك أعلم بالمفسدين وإن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل وأنا برئ مما تعملون. ومنهم من يستمعون إليك
____________________
(إن كنتم صادقين) أنه افتراه (بل كذبوا) بل سارعوا إلى التكذيب بالقرآن وفاجأوه في بديهة السماع قبل أن نفقهوه ويعلموا كنه أمره، وقبل أن يتدبروه ويقفوا على تأويله ومعانيه، وذلك لفرط نفورهم عما يخالف دينهم وشرادهم عن مفارقة دين آبائهم، كالناشئ على التقليد من الحشوية إذا أحس بكلمة لا توافق ما نشأ عليه وألفه، وإن كانت أضوأ من الشمس في ظهور الصحة وبيان الاستقامة أنكرها في أول وهلة وشمأز أمنها قبل أن يحس إدراكها بحاسة سمعه من غير فكر أو فساد، لأنه لم يشعر قلبه إلا صحة مذهبه وفساد ما عداه من المذاهب. فإن قلت: ما معنى التوقع في قوله (ولما يأتهم تأويله)؟ قلت: معناه إنهم كذبوا به على البديهة قبل التدبر ومعرفة التأويل تقليدا للآباء، وكذبوه بعد التدبر تمردا وعنادا، فذمهم بالتسرع إلى التكذيب قبل العلم به، وجاء بكلمة التوقع ليؤذن أنهم علموا بعد علو شأنه وإعجازه لما كرر عليهم التحدي ورازوا قواهم في المعارضة واستيقنوا عجزهم عن مثله فكذبوا به بغيا وحسدا (كذلك) أي مثل ذلك التكذيب (كذب الذين من قبلهم) يعنى قبل النظر في معجزات الأنبياء وقبل تدبرها من غير إنصاف من أنفسهم، ولكن قلدوا الآباء وعاندوا.
وقيل هو في الذين كذبوا وهم شاكون. ويجوز أن يكون معنى - ولما يأتهم تأويله - ولم يأتهم بعد تأويل ما فيه من الإخبار بالغيوب: أي عاقبته حتى يتبين لهم أهو كذب أم صدق؟ يعنى أنه كتاب معجز من جهتين: من جهة إعجاز نظمه، ومن جهة ما فيه من الإخبار بالغيوب فتسرعوا إلى التكذيب به قبل أن ينظروا في نظمه وبلوغه حد الإعجاز، وقبل أن يخبروا إخباره بالمغيبات وصدقه وكذبه (ومنهم من يؤمن به) يصدق به في نفسه ويعلم أنه حق ولكنه يعاند بالتكذيب. ومنهم من يشك فيه لا يصدق به أو يكون للاستقبال: أي ومنهم من سيؤمن به ومنهم من سيصر (وربك أعلم بالمفسدين) بالمعاندين أو المصرين (وإن كذبوك) وإن تموا على تكذيبك ويئست من إجابتهم فتبرأ منهم وخلهم فقد أعذرت كقوله تعالى - فإن عصوك فقل إني برئ - وقيل هي منسوخة بآية السيف (ومنهم من يستمعون إليك) معناه: ومنهم ناس يستمعون إليك إذا قرأت القرآن وعلمت الشرائع، ولكنهم لا يعون ولا يقبلون وناس ينظرون إليك ويعاينون أدلة الصدق وأعلام النبوة ولكنهم لا يصدقون. ثم قال: أتطمع أنك تقدر على إسماع الصم ولو انضم إلى صممهم عدم عقولهم؟ لأن الأصم العاقل ربما تفرس واستدل إذا وقع
(٢٣٨)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 233 234 235 236 237 238 239 240 241 242 243 ... » »»