الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل - الزمخشري - ج ١ - الصفحة ٥٥٧
لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا. فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم، وكان الله عفوا غفورا. ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة،
____________________
التي لا تمنعون فيها من إظهار دينكم، ومن الهجرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كما فعل المهاجرون إلى أرض الحبشة، وهذا دليل على أن الرجل إذا كان في بلد لا يتمكن فيه من إقامة أمر دينه كما يجب لبعض الأسباب والعوائق عن إقامة الدين لا تنحصر، أو علم أنه في غير بلده أقوم بحق الله وأدوم على العبادة حقت عليه المهاجرة.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم (من فر بدينه من أرض إلى أرض وإن كان شبرا من الأرض استوجبت له الجنة، وكان رفيق أبيه إبراهيم ونبيه محمد عليهما الصلاة والسلام). اللهم إن كنت تعلم أن هجرتي إليك لم تكن إلا للفرار بديني فاجعلها سببا في خاتمة الخير ودرك المرجو من فضلك والمبتغى من رحمتك، وصل جواري لك بعكوفي عند بيتك بجوارك في دار كرامتك يا واسع المغفرة. ثم استثنى من أهل الوعيد المستضعفين الذين لا يستطيعون حيلة في الخروج لفقرهم وعجزهم ولا معرفة لهم بالمسالك. (وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بهذه الآية إلى مسلمي مكة فقال جندب بن ضمرة أو ضمرة بن جندب لبنيه: احملوني فإني لست من المستضعفين، وإني لأهتدي الطريق، والله لا أبيت الليلة بمكة، فحملوه على سرير متوجها إلى المدينة وكان شيخا كبيرا فمات بالتنعيم) فإن قلت: كيف أدخل الولدان في جملة المستثنين من أهل الوعيد كأنهم كانوا يستحقون الوعيد مع الرجال والنساء لو استطاعوا حيلة واهتدوا سبيلا؟ قلت: الرجال والنساء قد يكونون مستطيعين مهتدين وقد لا يكونون كذلك، وأما الولدان فلا يكونون إلا عاجزين عن ذلك، فلا يتوجه عليهم وعيد لان سبب خروج الرجال والنساء من جملة أهل الوعيد إنما هو كونهم عاجزين، فإذا كان العجز متمكنا في الولدان لا ينفكون عنه كانوا خارجين من جملتهم ضرورة هذا إذا أريد بالولدان الأطفال، ويجوز أن يراد المراهقون منهم الذين عقلوا ما يعقل الرجال والنساء فيلحقوا بهم في التكليف، وإن أريد بهم العبيد والإماء البالغون فلا سؤال. فإن قلت: الجملة التي هي (لا يستطيعون) ما موقعها؟ قلت: هي صفة للمستضعفين أو للرجال والنساء والولدان، وإنما جاز ذلك والجمل نكرات لان الموصوف وإن كان فيه حرف التعريف فليس لشئ بعينه كقوله * ولقد أمر على اللئيم يسبني * فإن قلت: لم قيل (عسى الله أن يعفو عنهم) بكلمة الأطماع؟ قلت: للدلالة على أن ترك الهجرة أمر مضيق لا توسعة فيه، حتى إن المضطر البين الاضطرار من حقه أن يقول: عسى الله أن يعفو عني فكيف بغيره (مراغما)
(٥٥٧)
مفاتيح البحث: سبيل الله (1)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 552 553 554 555 556 557 558 559 560 561 562 ... » »»