الشئ ما يصدقه وبين صدقه كأنه آلة لصدقه، والقرآن بإعجازه مستغن في صدقه عن شهادة غيره، وبتصديقه لما تقدمه من الكتب السماوية شاهد صدق لها ومصداقها (بين يديه) حقيقة في المكان ثم اشتهر للزمان المتقدم مستعارا (قوله دون كل معجز) ظرف مستقر وقع حالا من المستكن في باقيان: أن متجاوزا في البقاء سائر المعجزات، وكذا قوله من بين مستقر وقع حالا من المستتر في دائرا: أي منفردا في الدوران من بين سائر الكتب الإلهية، إذ لم يعهد جريان باقي الكتب على ألسنة أرباب اللغات المتخالفة في الدهور المتطاولة (قوله وجه الزمان) استعارة بالكناية وتخييل، شبه الزمان لظهور بعض الأشياء الموجودة فيه دون بعض بشئ له ظاهر يبدو ما عليه وباطن يستتر ما فيه، فأثبت له الوجه من قولهم وجه الأرض لظاهرها فإنه شائع الاستعمال فيه، وجعل القرآن موضوعا عليه مبالغة في ظهوره. وقد تخيل بعضهم أن الوجه إما تخييل وإما مستعار للظاهر المكشوف من الزمان، وذهب عليه أن الزمان لا ينقسم إلى ظاهر مكشوف وإلى باطن مستور، فإذا جعل الوجه بمعنى الظاهر كان تخييلا لا قسيما له (قوله أفحم به) إما صفة ثالثة لمعجزا عدل فيها إلى الجملة الفعلية لملاحظة الحدوث وجاز وصفه لكونه بمنزلة الاسم كالممكن ونظائره، وإما استئناف بيان لإجازه على سبيل الإجمال كأنه قيل: لم قلت إنه معجز وبم عرفت ذلك؟ فأجاب بأنه أفحم: أي أسكت، ثم ترقى فقال أبكم، وأخذه من بكم قياسا إذ لم يشتهر فعل بنى منه سوى ما نقله في الأساس من قوله: تكلم فلان فتبكم عليه: إذا أرتج عليه، وقد يجعل استعماله إياه بمنزلة روايته له فإنه ثقة في اللغة (المعارضة) أن يأتي إلى صاحبه بمثل ما أتى به و (العرب العرباء) هم الخلص منهم كالعرب العاربة، أخذ من لفظه فأكد به كقولك: ظل ظليل، وليل أليل. وفائدة لفظة به بعد أفحم وأبكم الإشعار بأن إعجاز القرآن كما هو المختار المشار إليه بسياق كلامه إنما هو بكلام بلاغته، لا بالصرفة كما يتوهم من إسناد الإفحام والإبكام إليه تعالى لولا تقييدهما بالظرف، والتحدي طلب المعارضة وأصله في الحاديين، يقال خطيب مصقع:
أي بليغ مجهر بخطبته، إما من صقع الديك إذا صاح، وإما من الصقع بمعنى الجانب، لأنه يأخذ في كل جانب من الكلام، وإما من صقعه إذا ضرب صوقعته: أي وسط رأسه كما يأتي في قراعة من قرء - من الصواقع حذر الموت - (فلم يتصد) يتعلق بأفحم ولم ينهض بأبكم، وتلخيص معناه أنه طولب بمعارضته فصحاء العرب فأفحمهم، فلم يتعرض للإتيان بما يساوى القرآن أو يقاربه واحد منهم، وتحدى به بلغاؤهم فأبكمهم به، فلم يقم بمقدار أقصر سورة ناهض منهم. ففي الكلام ترق حيث نسب الإفحام إلى فصحائهم وأظهر عجزهم عن مجموعه، ثم نسب الإبكام إلى بلغائهم وبين قصورهم عن أقصر سورة (على أنهم) حال من البلغاء لأنه فاعل في المعنى: أي لم ينهض بلغاؤهم على أنهم كانوا، فالضمير لهم أو من البلغاء والفصحاء معا فالضمير لهما جميعا، فالعامل في الحال على الوجهين معنى النفي: أي تركوا التصدي والنهوض حال كونهم كذا، لا المنفى لفساد المعنى، وجدوى هذه الحال إزالة ما عسى أن يتوهم من أنهم ربما كانوا قليلين يمكن أن يغلب عليهم واحد من جنسهم فلا يثبت الإعجاز لعجزهم وكلمة على في " على أنهم " تدل على رسوخهم في صفة الكثرة واستقرارهم واستعلائهم عليا، فما قيل من أنها بمعنى