النفسي عند القائل به إنما هو بالشرع، وأما ثانيا فلأن اتصاف القرآن بما ذكر من التأليف والتنظيم والتنجيم مثلا أمر ظاهر مكشوف ليس مما يستفاد من دلالة الشرع عليه.
واعلم أن للمعتزلة على حدوث القرآن دليلا عقليا هو تركبه من أجزاء يمتنع اجتماعها في الوجود كما سيأتيك تقريره، ودليلا سمعيا كقوله تعالى - ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث - فالأولى استدلال على حدوثه بما علم اتصافه به عقلا، والثاني استدلال بما ورد في الشرع ودل على حدوثه لا على اتصافه بما يوجب حدوثه كما توهمه هذا القائل.
فإن قيل: إذا كان القرآن عندهم حادثا لم يكن قائما بالله لتعاليه عن قيام الحوادث بذاته فلا يكون كلاما له.
قلنا: إنهم يجوزون قيام كلام الله بغيره ويقولون هو متكلم، بمعنى أنه موجد للكلام لا أنه محل له. ويرد عليه أن المتكلم على قاعدة اللغة في المشتقات كالمتحرك والأسود من قام به الكلام لا من أوجده، ومن ههنا ينتظم برهان على إثبات الكلام النفسي. والكلام في اللغة اسم جنس يقع على القليل والكثير. وعرفه بعض الأصوليين بأنه المنتظم من الحروف المسموعة المتميزة، وقد يزاد قيدان آخران فيقال: المتواضع عليها إذا صدرت عن واجد قادر، ويطلق في عرف النحاة على ما يفيد فائدة تامة، والمراد ههنا المعنى الأول الذي باعتباره يوصف صاحبه بأنه متكلم ويقابل الأعجم والأخرس و (كلاما مؤلفا) إما حال موطئة كما صرح به الزمخشري في قوله - إنا أنزلناه قرآنا عربيا - وإما حال مؤكدة تقرر ما تضمنه القرآن خصوصا على زعمه، ولابد في مجئ المؤكدة بعد الجملة الفعلية كقوله تعالى - قائما بالقسط - على ما صرح به أيضا، وأما النصب على البدلية أو على المدح ففيه فوات الملاءمة مع ما يناظره في القرينة الأخرى، أعني منجما فإنه حال قطعا. والتأليف جمع أشياء متناسبة كما يرشد إليه اشتقاقه من الألفة، والمراد به مطلق التركيب من المفردات والجمل. والتنظيم فوق التأليف لأنه من نظم اللؤلؤ ونحوه، فيراعى فيها مع المناسبة الجنسية وضع أنيق وترتيب بهيج، والمراد جودة التركيب وحسنه برعاية مقتضى الحال والتطبيق على الأعراض، فهو من باب عالم نحرير، والأشبه أن يراد بالتأليف فيما بين المفردات لتحصيل جملة مفيدة والتنظيم فيما بين الجمل، إذ قد يحتاج ههنا إلى مزيد تأنق فيكون من قبيل التأسيس بخلاف الأول، ويتضمن أيضا مشابهة ظاهرة بين آحاد الجمل المتناسبة التي يستقل كل منها بفائدة معتد بها وبين فرائد اللآلئ المتناسقة (قوله بحسب المصالح) أي بقدرها وعددها، يقال ليكن عملك بحسب ذلك: أي على قدره وعدده، والسين فيه مفتوحة وربما سكنت في ضرورة الشعر، والظرف أعني " بحسب " متعلق بقوله منجما أي موزعا مفرقا بعدد المصالح، والنجم في الأصل الكوكب، ثم نقل إلى الوقت المضروب المعين إذ يتعرفون الأوقات بالنجوم، فقيل نجوم الكتابة للأوقات المعينة لأداء حصصها، ثم استعمل في تلك الحصص المؤداة في تلك الأوقات، ثم اشتق العفل فقيل نجم الكتابة أو الدية: أي وزعها حصصها وأداها دفعات (قوله وجعله بالتحميد) أي جعله مفتتحا بالسورة المشتملة على التحميد، ولذلك سميت السورة فاتحة الكتاب، وجعله (مختتما) بالسورة المشتملة على الاستعاذة فكانت خاتمة الكتاب قياسا على فاتحته، ولم يرد أن لفظ التحميد أول جزء منه ليدل على أن التسمية ليست جزءا من سورة الحمد، ولا أن لفظ الاستعاذة آخر جزء منه ليحتاج في توجيهه إلى أن ما بعد الاستعاذة إلى آخر السورة متعلق بها فهو من تتمتها، وفى نسبة الجعل إلى الله سبحانه إشارة إلى أن ترتيب القرآن في المصحف على هذا الوجه