الفاء فصيحة من باب: فقد جئنا من خراسانا: أي إذا كان القرآن من علو شأنه ورفعة مكانه وكونه أقرب الأشياء إليه تعالى محدثا، فليتعجب المتعجبون من تفرده تعالى بصفة القدم ووسم جميع ما عداه بنقيصة سبق العدم، أو إذا كان كذلك فأنزهه عن كل وصمة وأبرئه عن كل نقيصة، وفيه رمز كما مر إلى أن الحدوث إنما لزم القرآن لاقتضاء ذاته تعالى التنزه عن الشركة في صفة القدم لا لنقصانه في نفسه، بل هو كامل في بابه كما نبه عليه حيث أردف المبتدأ بالمبتدع، والمنشأ بالمخترع، و " الاستئثار " التفرد والاستبداد. و " الأولية " السبق على ما سواه.
و (القدم) على المسبوقية بالعدم، وهما متلازمان وجودا لا مفهوما، فإن ما كان سابقا على جميع ما عداه كان قديما إذ لو كان حادثا لم يكن سابقا مطلقا لوجود القديم، وما كان قديما كان سابقا على جميع ما سواه لامتناع تعدد القدماء المتغايرة. ولما كان القدم هو المقصود جعل الأولية توطئة له ترقيا في الكلام. و " الشئ " في اللغة كما صرح به في سورة البقرة والأنعام يقع على المحال والمستقيم والجرم والعرض، فيختص هاهنا بالموجود بقرينة الحدوث عن العدم كما خص بالمستقيم في قوله تعالى - والله على كل شئ قدير - بقرينة القدرة، وأما الشئ بالمعنى المذكور في علم الكلام، فمما لا يلتفت إليه في أمثال هذا المقام وفى دعوى استئثار الذات بالقدم واتسام كل موجود سواه بالحدوث زيادة مبالغة في حدوث القرآن، ورد على مثبتي صفات زائدة على ذاته تعالى قديمة.
والمراد بالسبق والقدم والحدوث ما هو بحسب الزمان، لأنه المتبادر عند الإطلاق، فقوله " بالحدوث عن العدم " تنصيص على المراد بعد ظهوره ورعاية للسجع (قوله أنشأه كتابا) هو مع ما في حيزه بدل من أنزل، وما عطف عليه رجع به إلى ما كان فيه من بيان اتصاف القرآن بصفات الكمال بعد ما وقع في البيت من إثبات الحدوث وما تبعه من تنزيه الله تعالى، وقصد في هذا البد أن اتصافه بتلك الأوصاف الجليلة من التأليف والتنظيم والتنجيم والافتتاح والاختتام والتفصيل والتمييز إنما كان ليكون نظمه في إفادة معناه كاملا بسطوع تبيانه، ومعناه وافيا بما قصد به من الغرض بقطعية برهانه، واشتماله على بينات المنقول وحجج المعقول، وتباعده عن شوائب العوج، وكونه مفتاحا لمنافع الدارين، ومصداقا لسائر الكتب المنزلة قبله، بل ليكون نظمه البليغ في إفادة ذلك المعنى الوفى بالغا حد الإعجاز، ويقترن بذلك وعد كونه تبيانا لكل شئ بالإيجاز، وإنما قال أنشأه: أي أحدثه ابتهاجا بما أثبته من معتقده، وإن كان المقصود الأصلي هو القيود المذكورة لاكونه محدثا، وهذه المنصوبات: أعني كتابا ووحيا وقرآنا ومفتاحا ومصداقا، أحوال مترادفة أو مفاعيل ثانية بأن يضمن أنشأ معنى جعل وصير، والمراد إنشاؤه على هذا الوجه لأنقله من وجه آخر إليه، وفى ترك العطف إشارة إلى أن كل واحدة منها صفة كمال على حدة (قوله معجزا) إما أن ينخرط معها في سلكها، وإما أن يكون بدلا منها بأسرها، كأه قال أنشأه معجزا.
يقال سطح الصبح يسطع سطوعا: إذا ارتفع، شبه تبيان القرآن بتباشير الصبح المرتفعة في الوضوح والانجلاء، وأثبت له السطوح تخييلا، وعبر عن الدلائل النقلية بالبينات لظهورها، وعن العقلية بالحجج، إذ بها الغلبة على المخالف مطلقا، وقدم الأولى لأنها أكثر في القرآن وللترقي ورعاية السجع. وقيل ما يثبت به الدعوى يسمى بينة من حيث إفادته للبيان، وحجة من حيث يغلب به على الخصم، فالعاطف بينهما حينئذ قد توسط بين صفات ذات واحدة، والقرآن مفتاح ينفتح به باب الشريعة المشتملة على كل خير وسعادة في الآخرة والأولى، ومصداق