من هذين الاسمين، وإطلاق العلم أولى لأنه الأكثر والأشهر والأشرف. ثم الظاهر أن المراد بالصناعة ههنا متعارف العامة، وأن ذكر الصناعات لمشابهتها العلوم في أن تفاضل مراتب أصحابها بحسب الدقائق دون الأصول.
فإن قلت: علم الكلام لا تعلق له بكيفية عمل فكيف سماه صناعة؟ قلت: ذلك على سبيل التشبيه لأنه لدقته وغموضه لا يتحصل إلا بمناظرات متعاقبة ومراجعات متطاولة ولذلك سمى كلاما فله نوع تعلق بالعمل. وقد يقال: كل علم مارسه الرجل حتى نسب إليه وصار كالحرفة له يسمى صناعة سواء أكن متعلقا بالعمل أولا (طبقات العلماء) درجاتهم (فيه) أي في متن العلوم (وأقدام الصناع) منازلهم (فيه) أي في عمود الصناعات، وقد أشار بتخصيص كل من الطبقات والأقدام بموضعه إلى إنافة العلوم على الصناعات، واقتصر في طبقات العلماء على التداني، وردد في أقدام الصناع بين التقارب والتساوي بناء على استبعاد التساوي في قواعد العلوم دون الصناعات.
لا يقال قوله طبقات العلماء مع ما في حيزه مغير عن المعطوف عليه وحده، أعني متن، وقوله " وأقدام الصناع " مع ما في حيزه خبر عن المعطوف وحده أعني عمود كل صناعة، فكيف جاز عطف أحد الخبرين على الآخر. لنا نقول:
قد صرح النحاة بأن الخبر إذا تعدد لتعدد المخبر عنه حقيقة وإن كان متحدا لفظا لا يستعمل الخبران بغير عطف كقوله: يداك يد خيرها يرتجى * وأخرى لأعدائها غائظه فإذا كان المخبر عنه متعددا حقيقة ولفظ معطوفا بعضه على بعض كان العطف في الخبر أولى ليكون على وتيرة المخبر عنه، والسر في العطف أن مآل المعنى وإن كان إلى التوزيع إلا أن القصد بحسب الظاهر لأمن الإلباس إلى ربط المجموع بالمجموع، فلا بد من أداة الجمع، كأنه قيل: مراتب العلماء والصناع في أصول العلوم والصناعات متقاربة، وقد توهم أنه نظير قولك: زيد وعمرو قام أبوه وذهب أخوه، على أن يكون أحد الضميرين لزيد والآخر لعمرو، وأنه لابد في مثله من اعتبار تقديم وتأخير وهو منظور فيه، لأنه إذا اعتبر تقديم خبر المعطوف عليه على المعطوف لم يبق للواو في خبر المعطوف وجه، وجعله لتأكيد لصوق الخبر بالمخبر عنه قصور وعجز. ثم إن المثال المشبه به إنما يصح إذا لم يكن القياس في اختصاص كل خبر بما هوله، ويكون حينئذ محمولا على ما قدرناه من ربط المجموع بالمجموع اعتمادا على فهم السامع (إن سبق هو مع ما عطف عليه بيان وتأكيد للتداني والتقارب المذكورين، واختار صيغة الماضي لأن المعنى على المضي أوقع. كأنه قيل إن كان سبق، ويشهد له قوله تباينت وتحاكت، واستعملت إن دون إذ لأن الشك في السبق أقرب إلى قلة التفاوت وثبوت التضارب، وذكر الخطأ والمسافة تشبيها للسبق في المراتب العقلية بالسبق في المسافات الحسية تصويرا له وتمكينا في الأذهان، ولا شبهة في أن الخط أنسب بالأقدام والمسافة بالطبقات، إلا أنه لاحظ جانب المعنى فقط (قوله وإنما الذي) هذا الخ معطوف على اعلم، وما في حيزه عطف قصة على قصة لا يلاحظ فيه مناسبة لخصوص جملة مع أخرى، ولك أن تقول:
كلمة اعلم، حث على التوجه نحو الخير الذي هو المقصود، فهو عطف بحسب المعنى على ذلك المقصود مجردا عن هذه الكلمة، كأنه قال: إن متن كل علم وعمود كل صناعة ليس فيه تفاوت يعتد به وإنما الذي تباينت، وهذا أدق وأحسن. وقد يتخيل أن الهمزة مفتوحة عطفا على ما بعد اعلم، وفيه وجوه من المبالغة التخصيص، فإنه بالقياس إلى القواعد والأصول وقد علم انتفاء التباين فيهما، ودلالة إنما على ظهور الحصر وإيراد المبتدأ موصولا