أن الإنزال وإن كان مطلقا لكنه إذا قوبل بالتنزيل الدال هاهنا على التدريج فيما بين أجزاء القرآن، إما لدلالته على التكثير، وإما لما قيد به من التنجيم تبادر منه الإنزال دفعة.
فإن قلت: الموصوف بالحركة حقيقة هو المتحيز بالذات من الجواهر الأفراد وما يتركب منها دون الأعراض، فإنه يمتنع فيها ذلك سواء كانت أجزاؤها مجتمعة كاللون أن سيالة كالصوت الذي هو جنس الكلام، فكيف يتصور إنزال القرآن وتنزيله مع أنهما تحريك من علو إلى أسفل.
قلت: ذلك مبنى على متعارف أهل اللغة، حيث يصفون الكلام بما يوصف به مبلغه فيقولون: نزل إلينا من القصر حكم الأمير، وكلامه على سبيل الإسناد المجازى، وصاحب الكشف جعل وصفه بالتنزيل من هذا القبيل، وحمل الإنزال على إظهاره في اللوح المحفوظ، زاعما أن للقرآن حركة معنوية وهى الظهور بعد الكمون لازمانا بل ذاتا، وأن تلك الحركة من الأعلى رتبة وشرفا، لأن علو مرتبة واجب الوجود تعالى والقلم الأعلى على اللوح لا يخفى، وتفسيره كلامه على ما نقل عنه: أن القرآن كان كامنا في العلم الإلهي ثم أضهره الله تعالى بواسطة القلم الذي هو العقل الأول في اللوح المحفوظ الذي هو نفس الكل، وهذا الظهور ليس بزماني لأن الزمان مقدار حركة الفلك الأعظم وهو متأخر عما ذكر بمراتب. ويرد عليه أنه مبنى على قواعد الفلسفة، وأن كونه في علم الله لابد أن يكون أزليا، فإذا لم يتأخر الظهور في اللوح عن الكمون زمانا بل ذاتا كان أزليا، إذ لو كان حادثا لكان متأخرا زمانا اتفاقا، فيلزم قدم اللوح والقلم وذلك باطل قطعا. والقرآن في اللغة مصدر بمعنى الجمع، يقال قرأت الشئ قرآنا: أي جمعته وبمعنى القراءة يقال: قرأت الكتاب قراءة وقرآنا، ثم نقل إلى هذا المجموع المقروء المنزل على الرسول صلى الله عليه وآله ، المنقول عنه تواترا فيما بين الدفتين وهو المراد ههنا، وقد يطلق على القدر المشترك بينه وبين بعض أجزائه الذي له نوع اختصاص به، وما يقال من أن إثبات القرآن لما كان بالشرع وقد دل الشرع على اتصافه بصفات توجب حدوثه، وكان مقصود المصنف تفسير ذلك الحادث، صدر كتابه ببعض تلك الصفات مراعاة لبراعة الاستهلال ودلالة على ما هو أشهر مقاصد المعتزلة في علم الكلام، أعني مسألة حدوث القرآن فليس بشئ.
أما أولا فلأن القرآن عند المصنف هو هذه العبارات المنظومة، وهى معجزة اتفاقا، ومن شرط المعجزة أن تكون صادرة من الله تعالى، لأنها تصديق فعلى منه يجرى مجرى التصديق القولي كما بين في موضعه، فهذه المعجزة مالم تعلم أنها من الله تعالى تصديقا لمدعى الرسالة لم تثبت النبوة التي يتفرع عليها الشرع فكيف يجوز إثباتها به. وتفصيله أن وجود العبارات معلوم بحسب السمع وإعجازها، إما بالذوق السليقي أو المكتسب، وإما بالاستدلال كما ستعرفه، وإذا علم إعجازها علم أنها ليست بكلام البشر، وأنها كلام خالق القوى والقدر كما نص عليه العلامة فيما بعد، فتكون هي معجزة من عند الله دالة على صدق مدعى النبوة، فالعلم بثبوت الشرع يتوقف على العلم بثوبتها وإعجازها وكونها من الله، فلا يصح إثبات شئ من ذلك بالشرع، لا يقال نحن نثبت الشرع بمعجزة أخرى ثم نثبت به القرآن أو نثبته ببعض القرآن ثم نثبت به البعض الآخر. لأنا نقول: الأول باطل محض، لأنه بناء للشئ على ما هو دونه، فإن القرآن أبهر المعجزات وأظهر الدلائل، والثاني تحكم بحت، والتشبث بأمثال ذلك كتمسك الغريق بما لا يجديه نفعا، إذ لا يشتبه على أحد أن المعجزة لأن نثبت بها الشرع لا لأن تثبت بالشرع، نعم إثبات القرآن بمعنى الكلام