عمدة القاري - العيني - ج ٣ - الصفحة ١٥٤
(وسمرت)، لم تختلف روايات البخاري كلها بالراء، ووقع لمسلم من رواية عبد العزيز: (وسلمت)، بالتخفيف واللام، وللبخاري من رواية وهيب عن أيوب، ومن رواية الأوزاعي عن يحيى، كلاهما عن أبي قلابة: (ثم أمر بمسامير فأحميت فكحلهم بها). ولا يخالف ذلك رواية المستملي، لأنه فقأ العين بأي شيء كان. قوله: (يستسقون فلا يسقون) زاد وهيب والأوزاعي: حتى ماتوا، وفي رواية سعيد: (يعضون الحجارة)، وفي رواية أبي رجاء: (ثم نبذهم في الشمس حتى ماتوا) وفي الطب في رواية ثابت، قال أنس: (فرأيت رجلا منهم يكدم الأرض بلسانه حتى يموت)، ولأبي عوانة من هذا الوجه: (يعض الأرض ليجد بردها مما يجد من الحر والشدة)، وزعم الواقدي أنهم صلبوا، ولم يثبت ذلك في الروايات الصحيحة.
بيان ما فيه من تفسير المبهم وغير ذلك قوله: (قدم أناس من كل أو عرينة) وفي رواية أبي عوانة والطبري بإسنادهما إلى انس، قال: (كانوا أربعة عن عرينة وثمانية عن عكل). وفي (طبقات) ابن سعد: أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم في إثرهم كرز بن جابر الفهري ومعه عشرون فارسا، وكان العرنيون ثمانية، وكانت اللقاح ترعى بذي الحدر، ناحية بقيا قريبا من نمير، على ستة أميال من المدينة، فلما غدوا على اللقاح أدركهم يسار مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه نفر فقاتلهم فقطعوا يده ورجله وغرز والشوك في لسانه وعينيه حتى مات ففعل بهم النبي صلى الله عليه وسلم كذلك، وأنزل عليه * (إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا...) * (المائدة: 33) الآية. فلم يسمل بعد ذلك عينا. انتهى. وكان يسار نوبيا أصابه رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة محارب، فلما رآه يحسن الصلاة أعتقه، وقال ابن عقبة كان أمير السرية سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل وخمل يسار ميتا فدفن بقباء وزعم الرشاطي أنهم من غير عرينة التي في قضاعة، وفي (مصنف عبد الرزاق): كانوا من بني فزارة، وفي كتاب ابن الطلاع: أنهم كانوا من بني سليم، وفيه نظر، لأن هاتين القبيلتين لا يجتمعان مع العرنيين. وفي (مسند الشاميين) للطبراني عن أنس: كانوا سبعة: أربة من عرينة وثلاثة من عكل، فقيل العرنيين لأن أكثرهم كان من عرينة، وذكرنا عن الطبري نحوه، ثم إن قدومه كان فيما ذكره ابن إسحاق من المغازي في جمادي الآخرة سنة ست، وذكره البخاري بعد الحديبية، وكانت في ذي القعدة منها، وذكر الواقدي أنها كانت في شوال منها، وتبعه ابن سعد وابن حبان وغيرهما، وذكر الواقدي أن السرية كانت عشرين، ولم يقل من الأنصار، وسمى منهم جماعة من المهاجرين، منهم: بريد بن الحصيب وسلمة بن الأكوع الأسلميان وجندب ورافع ابنا مكيث الجهنيان وأبو زر وأبو رهم الغفاريان وبلال بن الحارث وعبد الله بن عمرو بن عوف المزنيان، وقال بعضهم: الواقدي لا يحتج به إذا انفرد، فكيف إذا خالف؟ قلت: ما للواقدي وهو إمام وثقه جماعة منهم أحمد؟ والعجب من هذا القائل، إنه يقع فيه وهو أحد مشايخ إمامه. وقال الطبري بإسناده إلى جرير بن عبد الله البجلي، رضي الله تعالى عنه، قال: قدم قوم من عرينة حفاة، فلما صحوا واشتدوا قتلوا رعاة اللقاح، ثم خرجوا القاح، فبعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أدركناهم بعد ما أشرفوا على بلادهم... فذكره إلى أن قال: فجعلوا يقولون: الماء الماء، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: النار النار. انتهى. قلت: هذا مشكل، لأن قصة العرنيين كانت في شوال سنة ست كما ذكرنا، وإسلام جرير كان في السنة العاشرة، وهذا قول الأكثرين إلا أن الطبراني وابن قانع قالا: أسلم قديما. فان صح ما قالاه فلا إشكال، وذكر ابن سعد أن عدد اللقاح كان خمس عشرة، وأنهم نحروا منهم واحدة يقال لها: الحنا.
بييان استنباط الأحكام منها: أن مالكا استدل بهذا الحديث على طهارة بول ما يؤكل لحمه، وبه قال أحمد ومحمد بن الحسن والإصطخري والروياني الشافعيان، وهو قول الشعبي وعطاء والنخعي والزهري وابن سيرين والحكم الثوري، وقال أبو داود بن علية: بول كل حيوان ونحوه، وإن كان لا يؤكل لحمه، طاهر غير بول الآدمي. وقال أبو حنيفة والشافعي وأبو يوسف وأبو ثور وآخرون كثيرون: الأبوال كلها نجسة إلا ما عفي عنه، وأجابوا عنه بأن ما في حديث العرنيين قد كان للضرورة، فليس فيه دليل على أنه يباح في غير حال الضرورة، لأن ثمة أشياء أبيحت في الضرورات ولم تبح في غيرها، كما في لبس الحرير فإنه حرام على الرجال وقد أبيح لبسه في الحرب أو للحكة أو لشدة البرد إذا لم يجد غيره، وله أمثال كثيرة في الشرع، والجواب المقنع في ذلك أنه، عليه الصلاة والسلام، عرف بطريق الوحي شفاهم، والاستشفاء بالحرام جائز عند التيقن
(١٥٤)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 149 150 151 152 153 154 155 156 157 158 159 ... » »»