عمدة القاري - العيني - ج ٣ - الصفحة ١٤١
ففهم الغسل من لفظة القرص، فإذا قلنا: الرش بمعنى الغسل يلزم التكرار، ثم قوله: ثم إن الرش... إلى آخره، كلام من غير روي، لأن الرش ههنا لإزالة الشك المتردد في الخاطر، كما جاء في رش المتوضىء الماء على سراويله بعد فراغه من الوضوء، وليس معناه على الوجه الذي ذكرناه، فافهم.
بيان استنباط الأحكام منها: ما قاله الخاطبي: إن فيه دليلا على أن النجاسات إنما تزول بالماء دون غيره من المائعات، لان جميع النجاسات بمثابة الدم، لا فرق بينه وبينها إجماعا، وكذلك استدل به البيهقي في (سننه) على أصحابنا في وجوب الطهارة بالماء دون غيره من المائعات الطاهرة. قلت: هذا خرج مخرج الغالب لا مخرج الشرط، كقوله تعالى: * (وربائبكم اللاتي في حجوركم) * (النساء: 23) والمعنى في ذلك أن الماء أكثر وجودا من غيره، أو نقول: تخصيص الشيء بالذكر لا يدل على نفي الحكم عما عداه، أو نقول: إنه مفهوم لقب، ولا يقول به إمامنا.
ومنها: أنه يدل على وجوب غسل النجاسات من الثياب، وقال ابن بطال: حديث أسماء أصل عند العلماء في غسل النجاسات من الثياب، ثم قال: وهذا الحديث محمول عندهم على الدم الكثير، لأن الله تعالى شرط في نجاسته أن يكون مسفوحا، وهو كناية عن الكثير الجاري إلا أن الفقهاء اختلفوا في مقدار ما يتجاوز عنه من الدم، فاعتبر الكوفيون فيه، وفي النجاسات دون الدرهم في الفرق بين قليله وكثيره. وقال مالك: قليل الدم معفو، ويغسل قليل سائر النجاسات. وروي عن ابن وهب: إن قليل دم الحيض ككثيره وكسائر الأنجاس، بخلاف سائر الدماء، والحجة في أن اليسير من دم الحيض كالكثير قوله صلى الله عليه وسلم لأسماء: (حتيه ثم اقرصيه)، حيث لم يفرق بين قليله وكثيره، ولا سألها عن مقداره ولم يحد فيه مقدار الدرهم ولا دونه. قلت: حديث عائشة: (ما كان لإحدانا إلا ثواب واحد فيه تحيض فإن أصابه شيء من دم بلته بريقها، ثم قصعته بريقها) رواه أبو داود، وأخرجه البخاري أيضا، ولفظه: (قالت بريقها فمصعته)، يدل على الفرق بين القليل والكثير، وقال البيهقي: هذا في الدم اليسير الذي يكون معفوا عنه، وأما الكثير منه فصح عنها. أي: عن عائشة. أنها كانت تغسله، فهذا حجة عليهم في عدم الفرق بين القليل والكثير من النجاسة، وعلى الشافعي أيضا في قوله: (إن يسير الدم يغسل كسائر الأنجاس إلا دم الراغيث، فإنه لا يمكن التحرز عنه). وقد روي عن أبي هريرة، رضي الله عنه، أنه لا يرى بالقطرة والقطرتين بأسا في الصلاة، وعصر ابن عمر، رضي الله تعالى عنهما، بثرة فخرج منها دم فمسحه بيده وصلى، فالشافعية ليسوا بإكثر إحتياطا من أبي هريرة وابن عمر، ولا أكثر رواية عنهما حتى خالفوهما، حيث لم يفرقوا بين القليل والكثير، على أن قليل الدم موضع ضرورة، لأن الإنسان لا يخلو في غالب حاله من بثرة أو دمل أو برغوث، فعفى عنه، ولهذا حرم الله المسفوح منه، فدل أن غيره ليس بمحرم، وأما تقدير أصحابنا القليل بقدر الدرهم، فلما ذكره صاحب (الاسرار) عن علي وابن مسعود أنهما قدرا النجاسة بالدرهم، وكفي بهما حجة في الاقتداء. وروي عن عمر، رضي الله تعالى عنه، أيضا أنه قدره بظفره، وفي (المحيط): وكان ظفره قريبا من كفنا، فدل على أن ما دون الدرهم لا يمنع. وقال في (المحيط) أيضا: الدرهم الكبير ما يكون مثل عرض الكف، وفي صلاة الأصل: الدرهم الكبير المثقال يعني: يبلغ مثقالا. وعند السرخسي: يعتبر بدرهم زمانه، وأما الحديث الذي رواية الدارقطني في (سننه) عن روح بن غطيف عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تعاد الصلاة من قدر درهم من الدم)، وفي لفظ: (إذا كان في الثوب قدر الدرهم من الدم غسل الثوب وأعيدت الصلاة). وإن أصحابنا لم يحتجوا به، لأنه حديث منكر، بل قال البخاري: إنه باطل. فإن قلت: النص وهو قوله: * (وثيابك فطهر) * (المدثر: 4) لم يفصل بين القليل والكثير، فلا يعفى القليل. قلت: القليل غير مراد منه بالإجماع بدليل عفو موضع الاستنجاء فتعين الكثير، وقد قدر الكثير بالآثار.
ومنها: أن فيه الدلالة على أن الدم نجس بالإجماع.
ومنها: أن فيه الدلالة على أن العدد ليس بشرط في إزالة النجاسة بل المراد الإنقاء.
ومنها: أنها إذا لم تر في ثوبها شيئا من الدم ترش عليه ماء وتصلي فيه.
228 حدثنا محمد قال حدثنا أبو معاوية قال حدثنا هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت جاءت فاطمة ابنة أبي حبيش إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله إني امرأة
(١٤١)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 136 137 138 139 140 141 142 143 144 145 146 ... » »»