عمدة القاري - العيني - ج ١ - الصفحة ٣١٣
العبادة لا تتأدى بدون النية، بخلاف غسل الخبث، فإنه معقول لما فيه من إزالة عين النجاسة عن البدن أو الثوب، فلا يتوقف على النية. قلنا: الماء مطهر بطبعه لأنه خلق مطهرا. قال الله تعالى: * (وأنزلنا من السماء ماء طهورا) * (الفرقان: 48) كما أنه مزيل للنجاسة ومطهر بطبعه، وإذا كان كذلك تحصل الطهارة باستعماله، سواء نوى أو لم ينو، كالنار يحصل بها الإحراق، وإن لم يقصد. والحدث يعم البدن لأنه غير متجزىء فيسري إلى الجميع، ولهذا يوصف به كله، فيقال: فلان محدث، كسائر الصفات، إذ ليس بعض الأعضاء أولى بالسراية من البعض، إذ لو خصص بعض الأعضاء بالحدث لخص موضع خروج النجاسة بذلك، لأنه أولى المواضع به لخروج النجاسة منه، لكنه لم يخص، فإنه لا يقال: مخرجه محدث، فإذا لم يخص المخرج بذلك فغيره أولى، وإذا ثبت أن البدن كله موصوف بالحدث كان القياس غسل كله، إلا أن الشرع اقتصر على غسل الأعضاء الأربعة التي هي الأمهات للأعضاء تيسيرا، وأسقط غسل الباقي فيما يكثر وقوعه، كالحدث الأصغر، دفعا للحرج، وفيما عداه، وهو الذي لا يكثر وجوده كالحدث الأكبر، مثل: الجنابة والحيض والنفاس، أقر على الأصل حيث أوجب غسل البدن فيها، فثبت بما ذكرنا أن ما لا يعقل معناه وصف كل البدن بالنجاسة مع كونه طاهرا حقيقة، وحكمها دون تخصيص المخرج، وكذا الاقتصار على غسل بعض البدن، وهو الأعضاء الأربعة، بعد سراية الحدث إلى جميع البدن غير معقول، وكونهما مما لا يعقل لا يوجب تغيير صفة المطهر، فبقي الماء مطهرا كما كان، فيطهر مطلقا. والنية لو اشترطت، إنما تشترط للفعل القائم بالماء وهو التطهير، لا الوصف القائم بالمحل وهو الحدث، لأنه ثابت بدون النية، وقد بينا أن الماء، فيما يقوم به من صفة التطهير، لا يحتاج إلى النية، لأنه مطهر طبعا، فيكون التطهير به معقولا، فلا يحتاج إلى النية، كما لا يحتاج في غسل الخبث بخلاف التراب، فإنه غير مطهر بطبعه لكونه ملوثا بالطبع، وإنما صار مطهرا شرعا حال إرادة الصلاة بشرط فقد الماء، فإذا وجدت نية إرادة الصلاة صار مطهرا، وبعد إرادة الصلاة وصيرورته مطهرا شرعا مستغن عن النية، كما استغنى الماء عنها بلا فرق بينهما.
الثالث: الصلاة، ولا خلاف أنها لا تجوز إلا بالنية.
الرابع: الزكاة، ففيها تفصيل، وهو: أن صاحب النصاب الحولي إذا دفع زكاته إلى مستحقيها لا يجوز له ذلك إلا بنية مقارنة للأداء، أو عند عزل ما وجب منها تيسيرا له، وأما إذا كان له دين على فقير فأبرأه عنه، سقط زكاته عنه نوى به الزكاة أو لا، ولو وهب دينه من فقير، ونوى عنه زكاة دين آخر على رجل آخر، أو نوى زكاة عين له، لا يصح. ولو غلب الخوارج على بلدة فأخذوا العشر سقط عن أرباب الأموال بخلاف الزكاة، فإن للإمام أن يأخذها ثانيا، لأن التقصير ههنا من جهة صاحب المال حيث مر بهم، وهناك التقصير في الإمام حيث قصر فيهم. وقالت الشافعي: السلطان إذا أخذ الزكاة فإنها تسقط ولو لم ينو صاحب المال، لأن السلطان قائم مقامه. قلت: كان ينبغي على أصلهم أن لا تسقط إلا بالنية منه، لأن السلطان قائم مقامه في دفعها إلى المستحقين لا في النية، ولا حرج في اشتراط النية عند أخذ السلطان.
الخامس: الحج، ولا خلاف فيه أنه لا يجوز إلا بالنية لأنه داخل في عموم الحديث. فإن قلت: قال الشافعي: إذا نوى الحج عن غيره ينصرف إلى حج نفسه، ويجزيه عن فرضه، وقد ترك العمل بعموم الحديث. قلت: قالت الشافعية: أخرجه الشافعي من عموم الحديث بحديث شبرمة، والعمل بالخاص مقدم لأنه جمع بين الدليلين، وحديث شبرمة رواه أبو داود عن إسحاق بن إسماعيل وهناد بن السري المعنى واحد. قال إسحاق: أنبأنا عبدة بن سليمان عن ابن أبي عروبة عن قتادة عن عروة عن سعيد بن جبير: (عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يقول: لبيك عن شبرمة. قال: من شبرمة؟ قال: أخ له، أو قريب له. قال: حججت عن نفسك؟ قال: لا. قال: حج عن نفسك، ثم حج عن شبرمة). رواته كلهم رجال مسلم، إلا إسحاق بن إسماعيل شيخ أبي داود، وقد وثقه بعضهم. وقال البيهقي: هذا إسناد صحيح ليس في هذا الباب أصح منه، وقد أخرجه ابن ماجة أيضا في (سننه) وجاء في رواية البيهقي: (فاجعل هذه عن نفسك، ثم حج عن شبرمة). وفي رواية له أيضا: (هذه عنك، وحج عن شبرمة). وقال: فهم من هذا الحديث: أنه لا بد من تقديم فرض نفسه، وهو قول ابن عباس والأوزاعي وأحمد وإسحاق، واحتجت الحنفية بما رواه البخاري ومسلم: (أن امرأة من خثعم قالت: يا رسول الله إن أبي أدركته فريضة الحج، وإنه شيخ كبير لا يستمسك على الراحلة، أفأحج عنه؟ قال: نعم حجي عن أبيك) من غير استفسار: هل حججت أم لا؟ وهذا أصح من حديث شبرمة، على أن الدارقطني قال: الصحيح من الرواية: (اجعلها في نفسك ثم حج عن شبرمة) قالوا: كيف يأمره بذلك والإحرام
(٣١٣)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 308 309 310 311 312 313 314 315 316 317 318 ... » »»