عمدة القاري - العيني - ج ١ - الصفحة ٣١٤
وقع عن الأول؟ قلنا: يحتمل أنه كان في ابتداء الإسلام حين لم يكن الإحرام لازما على ما روي عن بعض الصحابة أنه تحلل في حجة الوداع عن الحج بأفعال العمرة، فكان يمكنه فسخ الأول وتقديم حج نفسه، والزيادات التي رواها البيهقي لم تثبت.
السادس: الصوم، ففيه خلاف، فمذهب عطاء ومجاهد وزفر أن الصحيح المقيم في رمضان لا يحتاج إلى نية، لأنه لا يصح في رمضان النفل فلا معنى للنية؟ وعند الأئمة الأربعة: لا بد من النية، غير أن تعيين الرمضانية ليس بشرط عند الحنفية، حتى لو صام رمضان بنية قضاء أو نذر عليه أو تطوع أنه يجزئ عن فرض رمضان. فإن قلت: لم قدم الحج على الصوم؟ قلت: بناء على ما ورد عنده في حديث: (بني الإسلام على خمس). وقد تقدم.
السابع: الأحكام، قال الكرماني: قوله: الأحكام أي: بتمامها، فيدخل فيه تمام المعاملات والمناكحات والجراحات، إذ يشترط في كلها القصد إليه، ولهذا لو سبق لسانه من غير قصد إلى: بعت ورهنت وطلقت ونكحت، لم يصح شيء منها. قلت: كيف يصح أن يقال: الأحكام بتمامها، وكثير منها لا يحتاج إلى نية، بخلاف بين العلماء؟ فإن قال هذا بناء على مذهبه فمذهبه ليس كذلك، فإن القاضي أبا الطيب نقل عن البويطي عن الشافعي أن: من صرح بلفظ الطلاق والظهار والعتق، ولم يكن له نية، يلزمه في الحكم. وكذلك أداء الدين ورد الودائع والأذان والتلاوة والأذكار والهداية إلى الطريق وإماطة الأذى عبادات كلها تصح بلا نية إجماعا. وقال بعضهم: والأحكام أي: المعاملات التي يدخل فيها الاحتياج إلى المحاكمات فيشمل البيوع والأنكحة والأقارير وغيرها. قلت. هذا أيضا مثل ذلك، فإن رد الودائع فيما تقع به فيه المحاكمة، مع أن النية ليست بشرط فيه إجماعا، وكذلك أداء الدين. فإن قلت: مؤدي الدين أو راد الوديعة يقصد براءة الذمة، وذلك عبادة. قلت: نحن لا ندعي أن النية لا توجد في مثل هذه الأشياء، وإنما ندعي عدم اشتراطها، ومؤدي الدين إذا قصد براءة الذمة برئت ذمته وحصل به الثواب، وليس لنا فيه نزاع، وإذا أدى من غير نية براءة الذمة، هل يقول أحد إن ذمته لا تبرأ.
وقال ابن المنير: كل عمل لا تظهر له فائدة عاجلا، بل المقصود به طلب الثواب، فالنية شرط فيه، وكل عمل ظهرت فائدته ناجزة، وتقاضته الطبيعة، فلا يشترط فيه النية، إلا لمن قصد بفعله معنى آخر يترتب عليه الثواب قال: وإنما اختلفت العلماء في بعض الصور لتحقق مناط التفرقة. قال: وأما ما كان من المعاني المختصة: كالخوف والرجاء، فهذا لا يقال فيه باشتراط النية، لأنه لا يمكن إلا منويا ومتى فرضت النية مفقودة فيه استحالت حقيقته، فالنية فيها شرط عقلي، وكذلك لا تشترط النية للنية فرارا من التسلسل.
قلت: فيه نظر من وجوه. الأول: في قوله: كل عمل لا يظهر له فائدة، فإنه منقوض بتلاوة القرآن والأذان وسائر الأذكار. فإنها أعمال لا تظهر لها فائدة عاجلا، بل المقصود منها طلب الثواب، مع أن النية ليست بشرط فيها بلا خلاف. الثاني: في قوله: وكل عمل ظهرت. إلى آخره. فإنه منقوض أيضا بالبيع والرهن والطلاق والنكاح بسبق اللسان من غير قصد، فإنه منقوض لم يصح شيء منها على أصلهم لعدم النية. الثالث: في قوله: وأما ما كان من المعاني المختصة. إلى آخره، فإنه جعل النية فيه حقيقة تلك المعاني، ثم قال: فالنية فيها شرط عقلي، وبين الكلامين تناقض. الرابع: في قوله: وكذلك لا تشترط النية للنية فرارا من التسلسل، فإنه بنى عدم اشتراط النية للنية على الفرار من التسلسل وليس كذلك، لأن الشارع شرط النية للأعمال، وهي حركات البدن، والنية خطرة القلب وليست من الأعمال، ويدل عليه أيضا قوله صلى الله عليه وسلم: (نية المؤمن خير من عمله). فإذا كانت النية عملا يكون المعنى: عمل المؤمن خير من عمله. وهذا لا معنى له.
وقال الله تعالى * (قل كل يعمل على شاكلته) * على نيته.
قال الكرماني: الظاهر أنه جملة حالية لا عطف، وحكاه بعضهم عنه، ثم قال: أي مع أن الله قال: قلت: ليت شعري ما هذه الحال؟ وأين ذو الحال؟ وهل هي مبنية لهيئة الفاعل أو لهيئة المفعول؟ على أن القواعد النحوية تقتضي أن الفعل الماضي المثبت إنما يقع حالا إذا كان فيه: قد، لأن الماضي من حيث إنه منقطع الوجود عن زمان الحال مناف له، فلا بد من: قد، لتقربه من الحال لأن القريب من الشيء في حكمه. فإن قلت: لا يلزم أن تكون ظاهرة، بل يجوز أن تكون مضمرة، كما في قوله تعالى: * (أو جاءكم حصرت صدورهم) * (النساء: 90) أي: قد حصرت. قلت: أنكر الكوفيون إضمار: قد، وقالوا: هذا خلاف الأصل، أولوا الآية: بأوجاءكم حاصرة صدورهم. نعم، يمكن أن تجعل الواو هنا للحال، لكن بتقدير محذوف، وتقدير هذه الجملة اسمية، وهو أن يقال تقديره: وكيف لا يدخل الإيمان وأخواته التي ذكرها في قوله الأعمال بالنية، والحال أن الله تعالى قال: * (قل كل يعمل
(٣١٤)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 309 310 311 312 313 314 315 316 317 318 319 ... » »»