عمدة القاري - العيني - ج ١ - الصفحة ٣٠٢
يرعى حول الحمى): هذا تشبيه حال من يدخل في الشبهات بحال الراعي الذي يرعى حول المكان المحظور بحيث أنه لا يأمن الوقوع فيه ووجه الشبه حصول العقاب بعدم الاحتراز في ذلك، فكما أن الراعي إذا جره رعيه حول الحمى إلى وقوعه في الحمى، استحق العقاب بسبب ذلك، فكذلك من أكثر من الشبهات وتعرض لمقدماتها وقع في الحرام فاستحق العقاب. فان قلت: ما يسمى هذا التشبيه؟ قلت: هذا تشبيه ملفوف، لأنه تشبيه بالمحسوس الذي لا يخفى حاله، شبه المكلف بالراعي، والنفس البهيمة بالأنعام، والمشتبهات بما حول الحمى والمحارم بالحمى، وتناول المشتبهات بالرتع حول الحمى، فيكون تشبيها ملفوفا باعتبار طرفيه، وتمثيلا باعتبار وجهه. قوله: (ألا وإن لكل ملك حمى) هذا مثل ضربه النبي، عليه الصلاة والسلام، وذلك أن ملوك العرب كانت تحمي مراعي لمواشيها، وتتوعد على من يقربها، والخائف من عقوبة السلطان يبعد بماشيته خوف الوقوع، وغير الخائف يقرب منها ويرعى في جوانبها، فلا يأمن من أن يقع فيها من غير اختياره، فيعاقب على ذلك. ولله تعالى أيضا حمى وهو: المعاصي، فمن ارتكب شيئا منها استحق العقوبة ومن قاربه بالدخول في الشبهات يوشك أن يقع فيها، وقد ادعى بعضهم أن هذا المثل من كلام الشعبي، وأنه مدرج في الحديث، وربما استدل في ذلك لما وقع لابن الجارود والإسماعيلي من رواية ابن عون عن الشعبي، قال ابن عون في آخر الحديث: فلا أدري المثل من النبي، عليه السلام، أو من قول الشعبي؟ وأجيب: بأن تردد ابن عون في رفعه لا يستلزم كونه مدرجا، لأن الاثبات قد جزموا باتصاله ورفعه، فلا يقدح شك بعضهم فيه. فان قلت: قد سقط المثل في رواية بعض الرواة، كأبي فروة عن الشعبي، فدل على الإدراج. قلت: لا نسلم ذلك، لأن هذا لا يقدح فيمن أثبت من الحفاظ الاثبات، ويؤيده ما رواه ابن حبان الذي ذكرناه آنفا. وقال بعضهم: ولعل هذا هو السر في حذف البخاري قوله: وقع في الحرام، ليصير ما قبل المثل مرتبطا به، فيسلم من دعوى الإدراج. قلت: هذا الكلام ليس له معنى أصلا، ولا هو دليل على منع دعوى الإدراج، وذلك لان قوله: وقع في الحرام، لم يحذفه البخاري عمدا، وإنما رواه في هذه الطريق هكذا، مثل ما سمعه، وقد ثبت ذلك في غير هذه الطريق، وكيف يحذف لفظا مرفوعا متفقا عليه لأجل الدلالة على رفع لفظ قد قيل فيه بالإدراج؟ وقوله: (ليصير) ما قبل المثل مرتبطا به، إن أراد به الارتباط المعنوي فلا يصح، لان كلا منهما كلام بذاته مستقل، وإن أراد به الارتباط اللفظي فكذلك لا يصح، وهو ظاهر.
قوله: (مضغة) أطلقها على القلب إرادة تصغير القلب بالنسبة إلى باقي الجسد، مع أن صلاح الجسد وفساده تابعان له، أو لما كان هو سلطان البدن لما صلح صلح الأعضاء الأخر التي هي كالرعية، وهو بحسب الطب أول نقطة تكون من النطفة، ومنه تظهر القوى، ومنه تنبعث الأرواح، ومنه ينشأ الإدراك ويبتدىء التعقل، فلهذه المعاني خص القلب بذلك، واحتج جماعة بهذا الحديث، وبنحو قوله تعالى: * (لهم قلوب لا يعقلون بها) * (الحج: 46) على أن العقل في القلب لا في الرأس.
قلت: فيه خلاف مشهور، فمذهب الشافعية والمتكلمين أنه في القلب، ومذهب أبي حنيفة، رضي الله تعالى عنه، أنه في الدماغ. وحكي الأول عن الفلاسفة، والثاني عن الأطباء. واحتج بأنه إذا فسد الدماغ فسد العقل. وقال ابن بطال: وفي هذا الحديث أن العقل إنما هو في القلب، وما في الرأس منه فإنما هو عن القلب. وقال النووي: ليس فيه دلالة على أن العقل في القلب، واستدل به أيضا على أن: من حلف لا يأكل لحما، فأكل قلبا، حنث. قلت: ولأصحاب الشافعي فيها قولان، أحدهما: يحنث، وإليه مال أبو بكر الصيدلاني المروزي، والأصح انه: لا يحنث، لأنه لا يسمى لحما.
40 ((باب أداء الخمس من الإيمان)) الكلام فيه على أنواع. الأول: أن لفظ: باب، مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف، مضاف إلى ما بعده، والتقدير: هذا باب أداء الخمس. أي: باب في بيان أن أداء الخمس شعبة من شعب الإيمان. ويجوز أن يقطع عن الإضافة، فحينئذ: أداء الخمس، كلام إضافي مبتدأ. وقوله: من الايمان، خبره. الثاني: وجه المناسبة بين البابين من حيث إن المذكور في الباب الأول هو الحلال الذي هو المأمور به، والحرام الذي هو المنهي عنه، فكذلك في هذا الباب، المذكور هو المأمور به، والمنهي عنه. أما المأمور به فهو: الايمان بالله ورسوله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصيام رمضان وإعطاء الخمس، وأما المنهي عنه فهو: الحنتم وأخواتها، وبهذا الباب ختمت الأبواب التي يذكر فيها شعب الإيمان وأموره. الثالث: قوله: (الخمس)، بضم الخاء، من: خمست القوم
(٣٠٢)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 297 298 299 300 301 302 303 304 305 306 307 ... » »»