إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم هو ربكم وإليه ترجعون " (1) ينفي (عليه السلام) عن نفسه ما نسبوا إليه من إتيان الآية ليعجزوه به، وينسبه إلى ربه ويبالغ في الأدب بقوله: " إن شاء " ثم بقوله: " وما أنتم بمعجزين " أي لله، ولذلك نسبه إليه تعالى بلفظ " الله " دون لفظ " ربي " لأن الله هو الذي ينتهي إليه كل جمال وجلال، ولم يكتف بنفي القدرة على إتيان الآية عن نفسه وإثباته حتى ثناه بنفي نفع نصحه لهم إن لم يرد الله أن ينتفعوا به، فأكمل بذلك نفي القدرة عن نفسه وإثباته لربه، وعلل ذلك بقوله: " هو ربكم وإليه ترجعون ".
فهذه محاورة غاصة بالأدب الجميل في جنب الله سبحانه حاور بها نوح (عليه السلام) الطغاة من قومه محاجا لهم، وهو أول نبي من الأنبياء (عليهم السلام) فتح باب الاحتجاج في الدعوة إلى التوحيد، وانتهض على الوثنية على ما يذكره القرآن الشريف.
وهذا أوسع هذه الأبواب مسرحا لنظر الباحث في أدب الأنبياء (عليهم السلام) يعثر على لطائف من سيرتهم المملوءة أدبا وكمالا، فإن جميع أقوالهم وأفعالهم وحركاتهم وسكناتهم مبنية على أساس المراقبة والحضور العبودي، وإن كانت صورتها صورة عمل من غاب عن ربه وغاب عنه ربه سبحانه، قال تعالى: " ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون * يسبحون الليل والنهار لا يفترون " (2).
وقد حكى الله تعالى في كلامه محاورات كثيرة عن هود وصالح وإبراهيم وموسى وشعيب ويوسف وسليمان وعيسى ومحمد (صلى الله عليه وآله) وغيرهم من الأنبياء (عليهم السلام) في حالات لهم مختلفة كالشدة والرخاء والحرب والسلم والإعلان والإسرار والتبشير والإنذار وغير ذلك.
تدبر في قوله تعالى: " فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفا قال يا قوم ألم يعدكم ربكم وعدا حسنا أفطال عليكم العهد أم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم فأخلفتم موعدي " (3) يذكر موسى (عليه السلام) إذ رجع إلى قومه وقد امتلأ غيظا