الموت، فما حاجة من لا يتمتع بلذة الحياة إلى الحياة؟ أو يهرب من لا راحة له إلا في الموت من الموت.
قال ابن الملك: صدقت أيها الحكيم فهل يسرك أن ينزل بك الموت من غد؟
قال الحكيم: بل يسرني أن ينزل بي الليلة دون غد فإنه من عرف السيئ والحسن وعرف ثوابهما من الله عز وجل ترك السيئ مخافة عقابه، وعمل الحسن رجاء ثوابه، ومن كان موقنا بالله وحده مصدقا بوعده فإنه يحب الموت لما يرجو بعد الموت من الرخاء ويزهد في الحياة لما يخاف على نفسه من الشهوات الدنيا والمعصية لله فيها فهو يحب الموت مبادرة من ذلك، فقال ابن الملك: إن هذا لخليق أن يبادر الهلكة لما يرجو في ذلك من النجاة، فاضرب لي مثل أمتنا هذه وعكوفها على أصنامها.
قال الحكيم: إن رجلا كان له بستان يعمره ويحسن القيام عليه إذ رأى في بستانه ذات يوم عصفورا واقعا على شجرة من شجرة البستان يصيب من ثمرها فغاضه ذلك فنصب فخا فصاده، فلما هم بذبحه أنطقه الله عز وجل بقدرته، فقال لصاحب البستان: إنك تهتم بذبحي وليس في ما يشبعك من جوع ولا يقويك من ضعف فهل لك في خير عما هممت به؟ قال الرجل: ما هو؟ قال العصفور: تخلى سبيلي وأعلمك ثلاث كلمات إن أنت حفظتهن كن خيرا لك من أهل ومال هو لك، قال: قد فعلت فأخبرني بهن، قال العصفور: احفظ عني ما أقول لك: لا تأس على ما فاتك ولا تصدقن بما لا يكون، ولا تطلبن مالا تطيق، فلما قضى الكلمات خلى سبيله، فطار فوقع على بعض الأشجار، ثم قال للرجل: لو تعلم ما فاتك مني لعلمت أنك قد فاتك مني عظيم جسيم من الامر، فقال الرجل وما ذاك؟ قال العصفور: لو كنت قضيت على ما هممت به من ذبحي لاستخرجت من حوصلتي درة كبيضة الإوزة فكان لك في ذلك غنى الدهر، فلما سمع الرجل منه ذلك أسر في نفسه ندما على ما فاته، وقال: دع منك ما مضى، وهلم أنطلق بك إلى منزلي فأحسن صحبتك وأكرم مثواك، فقال له العصفور: أيها الجاهل ما أراك حفظتني إذا ظفرت