ذلك أقوى تأثيرا في قلوبهم الثاني: أنه تعالى علم أن الرسول لم يشك في ذلك، إلا أن المقصود أنه متى سمع هذا الكلام فإنه يصرح ويقول: يا رب لا أشك ولا أطلب الحجة، من قول أهل الكتاب بل يكفيني ما أنزلته علي من الدلائل الظاهرة، ونظيره قوله تعالى للملائكة: " أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون (1) " وكما قال لعيسى عليه السلام: " أأنت قلت (2) " والمقصود منه أن يصرح عيسى عليه السلام بالبراءة من ذلك فكذا هنا، والثالث: هو أن محمدا صلى الله عليه وآله كان من البشر وكان حصول الخواطر المشوشة والأفكار المضطربة في قلبه من الجائزات، وتلك الخواطر لا تندفع إلا بإيراد الدلائل وتقرير البينات، فهو تعالى أنزل هذا النوع من التقريرات حتى أن بسببها يزول (3) عن خاطره تلك الوسواس، ونظيره قوله تعالى: " فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك (4) " وأقول: تمام التقرير في هذا الباب أن قوله: إن كنت (5) في شك فافعل كذا وكذا، قضية شرطية، والقضية الشرطية لا إشعار فيها البتة بأن الشرط وقع، أو لم يقع، ولا بأن الجزاء وقع أو لم يقع، بل ليس فيها إلا بيان أن ماهية ذلك الشرط مستلزمة لماهية ذلك الجزاء فقط، فالفائدة في إنزال هذه الآية تكثير الدلائل وتقويتها بما يزيد في قوة اليقين، وطمأنينة النفس، وسكون الصدر، ولهذا السبب أكثر الله في كتابه من تقرير دلائل التوحيد والنبوة.
الرابع: أن المقصود استمالة قلوب الكفار وتقريبهم من قبول الايمان، وذلك لأنهم طالبوه مرة بعد أخرى بما يدل على صحة نبوته، وكأنهم استحيوا من تلك المعاودات والمطالبات، فصار مانعا لهم من قبول الايمان (6)، فقال تعالى: وإن كنت في شك من من نبوتك فتمسك بالدليل الفلاني، يعني إن أولى الناس أن لا يشك في نبوته هو نفسه، ثم مع هذا إن طلب هو من نفسه دليلا على نبوة نفسه بعد ما سبق من الدلائل الباهرة