الواعية (1) من الدار، فأسرعت فيمن أسرع، فإذا نحن بالمأمون مكشوف الرأس، محلول الأزرار (2)، قائم على قدميه، ينتحب ويبكي.
قال: فوقفت فيمن وقف، وأنا أحس بنفسي تكاد تنفطر، فلما أصبحنا جلس المأمون لتعزيته، ثم قام يمشي إلى الموضع الذي فيه سيدنا الرضا (عليه السلام)، فقال:
أصلحوا لنا موضعا، فإني أريد أن اغسله. فدنوت منه فقلت: خلوة يا أمير المؤمنين، فأخلى نفسه، فأعدت عليه ما قاله سيدي بسبب الغسل والكفن والدفن.
فقال لي: لست أعرض في ذلك، شأنك يا هرثمة.
قال: فلم أزل قائما حتى رأيت الفسطاط الأبيض قد نصب إلى جانب الدار، فحملته ووضعته بقرب الفسطاط، وكان داخله، ووقفت من ظاهره، وكل من في الدار دوني، وأنا أسمع التكبير، والتهليل، والتسبيح، وتردد الأواني، وصوت صب الماء، وسطوع ريح طيب لم أشم مثله.
قال: فإذا أنا بالمأمون قد أشرف علي من بعض علو داره، فصاح: يا هرثمة، أليس زعمتم أن الإمام لا يغسله إلا إمام مثله، وأين ابنه محمد عنه، وهو بمدينة الرسول ونحن بطوس من أرض خراسان؟
قال: فقلت له: يا أمير المؤمنين: إنا نقول إن الإمام يجب أن يغسله إمام مثله، فإن تعدى متعد فغسل الإمام لم تبطل إمامة الإمام لتعدي غاسله، ولا بطلت إمامة الإمام الذي بعده بأن غلب على غسل أبيه، ولو ترك أبو الحسن علي بن موسى الرضا بالمدينة لغسله ابنه محمد ظاهرا، ولا يغسله الآن أيضا إلا هو من حيث يخفى.
قال: فسكت عني. ثم ارتفع الفسطاط فإذا أنا بسيدي مدرج في أكفانه فوضعته على نعشه، ثم حملناه، فصلى عليه المأمون، وجميع من حضر، ثم جئنا إلى موضع القبر، فوجدتهم يضربون المعاول من فوق قبر هارون، ليجعلوه قبلة القبر، والمعاول تنبو، فقال: ويحك يا هرثمة! أما ترى الأرض كيف تمتنع من حفر قبر له؟!