أحكام القرآن - الجصاص - ج ٢ - الصفحة ٥٦٢
مطلب: في الدليل على صحة نبوة النبي صلى الله عليه وسلم وقد دل قوله تعالى: (والله يعصمك من الناس) على صحة نبوة النبي صلى الله عليه وسلم، إذا كان من أخبار الغيوب التي وجد مخبرها على ما أخبر به، لأنه لم يصل إليه أحد بقتل ولا قهر ولا أسر مع كثرة أعدائه المحاربين له مصالتة والقصد لاغتياله مخادعة، نحو ما فعله عامر بن الطفيل وأربد، فلم يصلا إليه، ونحو ما قصده به عمير بن وهب الجمحي بمواطأة من صفوان بن أمية، فأعلمه الله إياه، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم عمير بن وهب بما تواطأ هو وصفوان بن أمية عليه وهما في الحجر من اغتياله، فأسلم عمير وعلم أن مثله لا يكون إلا من عند الله تعالى عالم الغيب والشهادة، ولو لم يكن ذلك من عند الله لما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم الناس ولا ادعى أنه معصوم من القتل والقهر من أعدائه وهو لا يأمن أن يوجد ذلك على خلاف ما أخبر به فيظهر كذبه مع غناه عن الإخبار بمثله. وأيضا لو كانت هذه الأخبار من عند غير الله لما اتفق في جميعها وجود مخبراتها على ما أخبر به، إذ لا يتفق مثلها في أخبار الناس إذا أخبروا عما يكون على جهة الحدس والتخمين وتعاطي علم النجوم والزرق والفال ونحوها، فلما اتفق جميع ما أخبر به عنه من الكائنات في المستأنف على ما أخبر به ولا تخلف شئ منها، علمنا أنها من عند الله العالم بما كان وما يكون قبل أن يكون.
قوله تعالى: (قل يا أهل الكتاب لستم على شئ حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم) فيه أمر لأهل الكتاب بالعمل بما في التوراة والإنجيل، لأن إقامتهما هو العمل بهما وبما في القرآن أيضا، لأن قوله تعالى: (وما أنزل إليكم من ربكم) حقيقته تقتضي أن يكون المراد ما أنزل الله على رسوله، فكان خطابا لهم، وإن كان محتملا لأن يكون المراد ما أنزل الله على آبائهم في زمان الأنبياء المتقدمين. وقوله تعالى: (لستم على شئ) مقتضاه: لستم على شئ من الدين الحق حتى تعملوا بما في التوراة والإنجيل والقرآن. وفي هذا دلالة على أن شرائع الأنبياء المتقدمين ما لم ينسخ منها قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم فهو ثابت الحكم مأمور به وأنه قد صار شريعة لنبينا عليه السلام، لولا ذلك لما أمروا بالثبات عليه والعمل به.
فإن قال قائل: معلوم نسخ كثير من شرائع الأنبياء المتقدمين على لسان نبينا صلى الله عليه وسلم، فجائز إذا كان هذا هكذا أن تكون هذه الآية نزلت بعد نسخ كثير منها، ويكون معناها الأمر بالإيمان على ما في التوراة والإنجيل من صفة النبي صلى الله عليه وسلم ومبعثه وبما في القرآن من الدلالة المعجزة الموجبة لصدقة، وإذا احتملت الآية ذلك لم تدل على بقاء شرائع الأنبياء المتقدمين. قيل له: لا تخلو هذه الآية من أن تكون نزلت قبل نسخ شرائع الأنبياء
(٥٦٢)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 557 558 559 560 561 562 563 564 565 566 567 ... » »»