قصة عامر ثم حكم فيه علي بن أبي طالب في الاسلام بهذا الحكم بأن جعل الحكم للمبال وهو أول من حكم بها في الاسلام انتهى. وقال في التنبيهات: كان عامر حاكم العرب فأتوه في ميراث خنثى فأقاموا عنده أربعين يوما وهو يذبح لهم كل يوم، وكانت له أمة يقال لها سخيلة فقالت: إن مقام هؤلاء أسرع في غنمك فقال: ويحك لم تشكل علي حكومة قط غير هذه فقالت له: اتبع الحكم المبال. قال: فرجتها يا سخيلة فصارت مثلا. قال الأذرعي: وفي ذلك عبرة ومزدجر لجهلة قضاة الزمان ومفتييه فإن هذا مشرك توقف في حكم حادثة أربعين يوما ولا قوة إلا بالله. انتهى من شرح شيخنا زكرياء للفصول.
قلت: وفيه عبرة من جهة أخرى وهي أن الحكمة قد يخلقها العلي ويجريها على لسان من لا يظن به معرفتها، وأنه وإن عجز عن إدراكها أصحاب الفطنة والعقول المستعدة لذلك فقد يجريها الله على لسان من لم يستعد لها والله الموفق. وذكر ابن إسحاق القصة في السيرة قبل الكلام على استيلاء قصي على أمر مكة فقال: أمر عامر بن الظرب بن عمر بن شكير بن عدوان العدواني كانت العرب لا يكون بينها نائرة ولا عضلة في قضاء إلا أسندوا ذلك إليه، ثم رضوا بما قضى فيه فاختصموا إليه في خنثى له ما للرجل وما للمرأة فقال: حتى أنظر في أمركم، فوالله ما نزل بي مثل هذه منكم يا معشر العرب. فبات ليلته ساهرا يقلب في أمره وينظر في شأنه لا يتوجه له فيه وجه، وكانت له جارية يقال لها سخيلة ترعى عليه غنمه فكان يعاتبها إذا سرحت فيقول: أصبحت والله يا سخيل، وإذا أراحت عليه قال أمسيت والله يا سخيل، وذلك أنها كانت تؤخر حتى يسبقها بعض الناس وتؤخر الإراحة حتى يسبقها بعض الناس، فلما رأت سهره وقلة قراره على فراشه قالت له: ما لك لا أبا لك ما عراك في ليلتك هذه؟ فقال: ويلك دعيني أمر ليس من شأنك. ثم عادت له بمثل قولها فقال في نفسه: عسى أن تأتي بفرج. فقال: ويحك اختصم إلي في ميراث خنثى فوالله ما أدري ما أصنع. فقالت:
سبحان الله لا أبالك اتبع القضاء المبال. أقعده فإن بال من حيث يبول الرجل فرجل، وإن بال من حيث تبول المرأة فهو امرأة. فقال: أمسي سخيل بعدها أو صبحي فرجتها والله. ثم خرج على الناس حين أصبح فقضى بالذي أشارت عليه انتهى. قال أبو القاسم السهيلي المالكي في الروض الآنف: وذكر يعني ابن إسحاق عامر بن الظرب وحكمه في الخنثى وما أفتت به جاريته سخيلة وهو حكم معمول به في الشرع وهو من باب الاستدلال بالأمارات والعلامات وله أصل في الشريعة قال الله تعالى: * (وجاؤوا على قميصه بدم كذب) * وجه الدلالة أن القميص المدمى لم يكن فيه خرق ولا أثر أنياب ذئب وكذا قوله: * (إن كان قميصه قد من قبل) * والله أعلم.
الثامن: في ميراثه اختلف العلماء في ذلك على أحد عشر قولا.