وقال في كل واحدة منها إن السنة لم تبلغه ولم يلوموهم ولم يجمعوا ذلك في كتاب وينشروه بين العامة، تأدبا معهم، فتحقق بهذا أنه هو الذي وضع الملام عليهم، وحاول رفعه بجعجعته هذه، وهيهات رفعه فإن رفع الواقع محال، ولا يرفعه عنهم قوله في آخر صفحة 8: (وهؤلاء - يعني الخلفاء - كانوا أعلم الأمة وأفقهها وأتقاها وأفضلها فمن بعدهم أنقص منهم).
ففحوى كلامه هذا أنهم ناقصون بدليل: (فمن بعدهم أنقص منهم)، وليس العلم بكثرة الرواية، وإنما هو نور يقذفه الله تعالى في قلب من يشاء من عباده = كما قال إمام دار الهجرة =، وهو الفهم بدليل قوله صلى الله تعالى عليه وسلم (من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين).
والغالب إن من يحفظ كثيرا يكون أقل علما، والخلفاء الأربعة محفوظ كل واحد منهم من السنة قليل جدا بالنسبة لحفاظ الصحابة وكل واحد منهم أعلم ممن يحفظها منهم، وهكذا يطرد فيمن بعدهم من التابعين وأتباعهم، وهلم جرا، وهذا الإمام أحمد بن حنبل قالوا: كان يحفظ مليونا من الأحاديث، أي باعتبار تعدد طرقها، وكان يذعن للإمام الشافعي الذي كان أقل حفظا لها منه ويأخذ بركابه.
وقد قال الإمام أحمد: ما من صاحب محبرة إلا وللشافعي عليه منة، وكان الإمام الشافعي يقول له وللإمام عبد الرحمن بن مهدي: إذا رأيتما حديثا صحيحا فأعلماني به.
وكان التابعي الشهير سليمان بن مهران الأعمش أحفظ للسنة من أبي حنيفة الذي هو من أقرانه، وقد قال مرة للإمام أبي حنيفة معترفا بفضله: أنتم الأطباء ونحن الصيادلة، وطلب من أبي حنيفة لما أراد الحج أن يكتب له مناسكه، وقال الإمام مالك لمن سأله عن الإمام أبي حنيفة بعد اجتماعية به: (رأيت رجلا لو استدل لك على هذه السارية أن تكون ذهبا لأقام عليها الحجة)، والأمثلة لا تحصى يعرفها الممارس للعلم.
ومصداق ذلك قوله صلى الله تعالى عليه وسلم: (رب مبلغ أوعى لها من سامع ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه).