شرح المقاصد في علم الكلام - التفتازاني - ج ١ - الصفحة ٤٦
وأما الإجماع فلأنه ليس قطعي السند إذ لم ينقل بطريق التواتر بل غايته الآحاد فللخصم أن يمنعه بل يدعي الإجماع على أنه يكفي التصديق علما كان أو ظنا أو تقليدا فإن الصحابة والتابعين رضي الله تعالى عنهم كانوا يكتفون من العوام بالتقليد والانقياد ولا يكلفونهم التحقيق والاستدلال والجواب أن الظن كاف في الوجوب الشرعي على أن الإجماع عليه متواتر إذ بلغ ناقلوه في الكثرة حدا يمتنع تواطؤهم به على الكذب فيفيد القطع وما ذكر من الإجماع على الاكتفاء بالتقليد فليس كذلك وإنما هو اكتفاء بالمعرفة الحاصلة من الأدلة الإجمالية على ما أشير إليه بقوله تعالى * (ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله) * من غير تلخيص العبارة في ترتيب المقدمات وتحقيق شرائط الإنتاج وتحرير المطالب بأدلتها وتقرير الشبه بأجوبتها على أنه لو ثبت جواز الاكتفاء بالتقليد في حق البعض فهو لا ينافي وجوب المعرفة بالنظر والاستدلال في الجملة هذا والحق أن المعرفة بدليل إجمالي يرفع الناظر عن حضيض التقليد فرض عين لا مخرج عنه لا حد من المكلفين وبدليل تفصيلي يتمكن معه من إزاحة الشبه وإلزام المنكرين وإرشاد المسترشدين فرض كفاية لا بد من أن يقوم به البعض الثالث أنا لا نسلم أن المعرفة الكاملة لا تحصل إلا بالنظر بل قد تحصل بالتعليم على ما يراه الملاحدة أو بالإلهام على ما يراه البراهمة أو بقول الإمام المعصوم على ما يراه الشيعة أو بتصفية الباطن بالرياضات والمجاهدات على ما يراه المتصوفة والجواب أنا نعلم بالضرورة أن تحصيل غير الضروري من العلوم يفتقر إلى نظر ما ظاهرا وخفي أما التعليم فظاهر لأنه ليس إلا إعانة للعقل بالإرشاد إلى المقدمات ودفع الشكوك والشبهات وقد شبهوا نظر البصيرة بنظر الباصرة وقول المعلم بالضوء الحسي وكما لا يتم الإبصار إلا بهما لا تتم المعرفة إلا بالنظر والتعليم وكذا الكلام في المعصوم إذ لا يكفي في صدقه إخبار معصوم آخر مالم ينته إلى نظر العقل وأما الإلهام فلأنه لا يثق به صاحبه مالم يعلم أنه من الله تعالى وذلك بالنظر وإن لم يقدر على العبارة عنه وأما تصفية الباطن فلأنه لا عبرة بها إلا بعد طمأنينة النفس في المعرفة وذلك بالنظر على أنه لو ثبت حصول المعرفة بدون النظر لم يضرنا لأنا إنما ندعي الاحتياج إليه في حق الأعم الأغلب وهذا لا يمنع لظهور كونه طريق العامة الرابع أنا لا نسلم أن المعرفة واجب مطلق فإن معناه الوجوب على كل تقدير ووجوب المعرفة مقيد بحال الشك أي تردد الذهن في النسبة أو مجال عدم المعرفة للقطع بأنه لا وجوب حال حصول المعرفة بالفعل لامتناع تحصيل الحاصل والجواب أن ليس معنى الوجوب على كل تقدير عموم التقادير والأحوال وإلا لما كان شيء من الواجبات واجبا مطلقا إذ لا يجب على تقدير الإتيان به ولأن وجوب الصوم مثلا مطلق بالقياس إلى النية حتى يجب مقيد بالقياس إلى كون المكلف
(٤٦)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 ... » »»