شرح المقاصد في علم الكلام - التفتازاني - ج ١ - الصفحة ٢٢٥
الحضور عند النفس هو الحضور عند الحس وتحقيق المقام أنا إذا أدركنا شيئا فلا خفاء في أنه يحصل لنا حال لم تكن وتكاد تشهد الفطرة بأنها بحصول أمر لم يكن لا بزوال أمر كان وما ذاك إلا تميزا وظهورا لذلك الشيء عند العقل وليس ذلك بوجوده في الخارج إذ كثيرا ما ندرك ما لا وجود له في الخارج من المعدومات بل الممتنعات وكثيرا ما يوجد الشيء في الخارج ولا يدركه العقل مع تشوقه إليه بل بوجوده في العقل بمعنى أن يحصل فيه أثر يناسب ذلك الشيء بحيث لو وجد في الخارج لكان إياه وهذا هو المعنى بحصول الصورة وحضورها وتمثلها وارتسامها ووصول النفس إليها ونحو ذلك ولا يفهم من إدراك الشيء سواه والاعتراض بأن الإدراك صفة المدرك والحصول ونحوه صفة الصورة مما لا يلتفت إليه عند المحققين سواء جعلنا الإدراك مصدرا بمعنى الفاعل أو المفعول وأما الاعتراض بأن ذكر المدرك وما به يدرك في تعريف الإدراك دور فجوابه أن المراد به الشيء الذي يقال له المدرك وما به الإدراك وإن لم تعرف حقيقة هذا الوصف وقد يجاب بأن هذا ليس تعريفا للإدراك بل تعيينا وتلخيصا للمعنى المسمى بالإدراك الواضح عند العقل (قال إما بحقيقته) إشارة إلى ما ذكروا من أن الشيء المدرك إما أن لا يكون خارجا عن ذات المدرك كالنفس وصفاتها وإما أن يكون خارجا وحينئذ فإما أن يكون ماديا أو غير مادي فالأول تكون حقيقته المتمثلة عند المدرك نفس حقيقته الموجودة في الخارج فيكون إدراكه دائما والثاني تكون صورة منتزعة عنه والثالث تكون صورة متحصلة في العقل غير مفتقرة إلى الانتزاع من حقيقة خارجية لكونها صورة لما هو مجرد في نفسه كإدراك المفارقات أو لما تحقق له ولا حقيقة أصلا كإدراك المعدومات واعترض على الأول بوجوه أحدها أنه يقتضي أن يكون إدراك النفس لذاتها وصفاتها دائما لدوام الحضور واللازم باطل لأن كثيرا من الصفات مما لا نطلع على آنيتها وماهيتها إلا بعد النظر والتأمل وإنما الكلام في ماهية النفس ولا يجوز أن يكون هذا ذهولا عن العلم بالعلم لأنه أيضا مما يلزم دوامه سيما وهم يقولون أن علمنا بذاتنا نفس ذاتنا وثانيها أن حصول الشيء للشيء وحضوره عنده يقتضي تغاير الشيئين ضرورة فيمتنع علم الشيء بنفسه وثالثها أن النفس إذا كانت عالمة بذاتها وصفاتها كانت عالمة بعلمها بذلك وهلم جرا لا إلى نهاية فيلزم علوم غير متناهية بالفعل وأجيب عن الأول بمنع مقدمات بطلان اللازم وهو مكابرة وعن الأخيرين بأن التغاير الاعتباري كاف والاعتبارات العقلية تنقطع بانقطاع الاعتبار وحاصله أن ليس هناك إلا شيء واحد هو ذلك المجرد المدرك وهو ليس بغائب عن نفسه فمن حيث يعتبر شاهدا يكون عالما ومن حيث يعتبر مشهودا يكون معلوما ومن حيث يعتبر شهودا يكون علما ومرجعه إلى أن وجود الشيء أعني حصوله وحضوره لا يزيد
(٢٢٥)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 220 221 222 223 224 225 226 227 228 229 230 ... » »»