مجلة تراثنا - مؤسسة آل البيت - ج ٥٧ - الصفحة ٢٣١
وقاعدة جواز العفو عن ذنوب المؤمن بغير توبة - التي ذكرها المتكلمون من أصحابنا رضي الله عنهم، وغيرهم - مع دليلها العقلي والسمعي، تعاضد هذه الأخبار وتقويها (1)..

(١) قال العلامة الحلي في مناهج اليقين - ص ٣٥٨ - في مسألة العفو:
اتفقت المعتزلة على أنه لا يجوز العفو ابتداء عن أصحاب الكبائر سمعا، واختلفوا في جوازه عقلا، فذهب البغداديون إلى أنه لا يجوز، وذهب البصريون إلى جوازه، وذهبت الإمامية إلى جوازه عقلا وسمعا.
أما عقلا، فلأن العفو إحسان فيكون حسنا، والمقدمتان قطعيتان، ولأنه حقه، وفي استيفائه ضرر على المكلف، فلا مضرة عليه تعالى في إسقاطه، فيكون إسقاطه حسنا قطعا.
لا يقال: العلم بالعفو إغراء بالقبيح، فيكون العفو قبيحا. ولأن العفو مع الوعيد كذب.
لأنا نقول: العفو ليس بقطعي، فلا يكون إغراء بالقبيح، كما إن المكلف يسقط بتوبته العقاب، مع أن التوبة ليست إغراء بالقبيح، لأنها ليست متيقنة الحصول.
وأما الوعيد، فمعارض بآيات الوعد.
وأما النقل، فوجوه:
أحدها: قوله تعالى: * (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك) *.
[سورة النساء ٤: ٤٨ و ١١٦].
فنقول: هذا الغفران إما أن يكون مع التوبة أو بدونها. والأول باطل، للإجماع بأن الشرك مغفور مع التوبة، فالثاني حق.
ولا يمكن أن يقال: إن عدم غفران الشرك مع عدم التوبة، وغفران ما دون ذلك بها، لخروج الكلام عن النظم الصحيح. لا يبقي للفضل معنى. ولأن الغفران مع التوبة واجب فلا يجوز تعلقه بالمشيئة.
لا يقال: الغفران هو الستر لا الإسقاط. وتحقيق الغفران في حق صاحب الذنب تأخير عقوبته إلى يوم القيامة، وتحقيق عدمه في حق الكافر هو تعجيلها. وتحقيق هذا التأويل ما قبل الآية من قوله: * (يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت) * [سورة النساء ٤: ٤٧]، ثم عقب بعد ذلك بقوله: * (إن الله لا يغفر أن يشرك به) *، التقدير: إن لم تؤمنوا فعلنا بكم كما فعلنا بأصحاب السبت من طمس الوجوه والمسخ.
سلمنا أن المراد السقوط، لكن يحتمل أن يكون السقوط إشارة إلى بعض أنواع العقاب لا إلى جميع أنواعه.
ونحن نقول بذلك، فإن عقاب الكافر أزيد من عقاب الفاسق، فيحتمل أن يكون الساقط ذلك القدر الزائد من العقاب.
لأنا نجيب عن الأول: بوقوع الإجماع على أن المراد بالغفران ها هنا السقوط، فإن الوعيدية تأولوا ذلك بالتائب، أو بمن زاد ثوابه على عقابه، والتفضيلية حملوا ذلك على المصر.
فعلم أنهم اتفقوا على أن المراد بالغفران السقوط.
وعن الثاني: إن المراد سقوط جميع أنواع العقاب، وإلا لما بقي فرق بين الكافر والفاسق، فإن الكافر لا يمكن أن يعذب بجميع أنواع العذاب.
وثانيها: قوله تعالى: * (وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم) * [سورة الرعد ١٣: ٦]، و * (على) * تدل على الحال، فأثبت المغفرة حالة الظلم، وذلك هو المطلوب، ترك العمل به في حق الكافر فيبقى الباقي على الأصل.
وثالثها: قوله تعالى: * (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا) * [سورة الزمر ٣٩: ٥٣]، ترك العمل به في الكافر للإجماع فيبقى الباقي على عمومه.
ورابعها: اتفقت الأمة على وجوب الشفاعة وتأثيرها في إسقاط العقاب على ما يأتي.
وخامسها: اتفقت الأمة على أن الله تعالى يعفو عن العباد، ونطق القرآن بذلك، ولا شك أن إسقاط العقاب عن أصحاب الصغائر مطلقا، وعن أصحاب الكبائر بعد التوبة واجب، فلا يكون عفوا بإسقاط عقابهما، فوجب أن يكون بإسقاط العقاب عن صاحب الكبيرة قبل التوبة.
احتج المخالف بوجوه:
الأول: إن العقاب لطف، فيكون إسقاطه قبيحا.
الثاني: قوله تعالى: * (ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها) * [سورة النساء 4: 14].
وقوله: * (من يعمل سوءا يجز به) * [سورة النساء 4: 123].
وقوله: * (ومن يظلم منكم نذقه عذابا كبيرا) * [سورة الفرقان 25: 19].
وقوله: * (ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره) * [سورة الزلزلة 99: 8].
وقوله: * (ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها) * [سورة النساء 4: 93] ولفظة " من " للعموم.
الثالث: قوله تعالى: * (إن الأبرار لفي نعيم * وإن الفجار لفي جحيم) * [سورة الانفطار 82: 23 و 24].
وجه الاستدلال: إن الاسم المحلى باللام إن قلنا بعمومه - كما هو مذهب أبي علي - ثبت المطلوب، وإن لم نقل - كما هو مذهب أبي هاشم - قلنا: إن هذه الآية خرجت مخرج الزجر عن الفجور، فيكون هذا الحكم مترتبا على الفجور، فيكون الفجور علة، فيلزم العموم أيضا.
والجواب عن الأول: ينتقض ما ذكرتم بوجوب إسقاطه بالتوبة.
ثم الجواب الحقيقي: إن تجويز العقاب لطف، وذلك حاصل على تقدير القول بالعفو، فإن الفاسق لا يقطع بحصول العفو.
وعن الوجهين الآخرين: بأن هذه الآيات مشروطة بعدم العفو، كما أنها مشروطة بعدم التوبة اتفاقا، وذلك للجمع بين آيات الوعيد والوعد. وأيضا المعارضة بآيات الوعد. وأيضا، بالمنع من العموم.
ولو سلم أنها موضوعة له، لكنها غير موضوعة له قطعا، ولو كان كذلك، لكنها غير مراد منها العموم قطعا.
(٢٣١)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 226 227 228 229 230 231 233 234 235 237 238 ... » »»
الفهرست