مجلة تراثنا - مؤسسة آل البيت - ج ١٥ - الصفحة ١١٧
فيما يتكلمون به، حتى إذا ألفوا حركة ألسنتهم ونطق أصواتهم، وترسخت في أذهانهم طريقتهم في صياغة الأسماء والأفعال والأوصاف، وفي التذكير والتأنيث وتأليف الجمل وأساليبها، نراهم يعودون إلى هذا المخزون الذي ألفوه فيركبون جملا من مفردات لعل آباءهم لم يسمعوا بها من قبل، وتكون جملهم الجديدة صحيحة في العادة، وما ذلك إلا نتيجة (عملية قياسية) عفوية.
فالقياس إذن أقرب إلى واقع اللغة منه إلى واقع الشريعة.
ولكن الذي يؤخذ على النحاة أنهم لم يبذلوا جهدا في تأصيل هذا القياس، بل في أصولهم النحوية عموما، كما بذل الفقهاء جهدهم في تأصيل قياسهم وأصولهم الفقهية.
ونظرة تاريخية لما حدث من تطور في تأصيل القياس عند الطرفين، نجد أنه حين نشأ عند الفقهاء في أوائل القرن الثاني، واختلفت مدارسهم في طريقة الأخذ به، واضطرب كثيرا بين العراقيين وأهل المدينة، فاختلط ب‍ (الرأي) حينا، و (بالاستحسان) و (المصلحة المرسلة) حينا آخر، وبقي على هذا الاضطراب، واختلاف المدارس في تطبيقه، من وفاة إبراهيم النخعي، رأس مدرسة الرأي بالكوفة (- 95 ه‍) إلى وفاة محمد بن الحسن (- 189 ه‍) تلميذ أبي حنيفة. في آخر هذه الفترة جاء دور الإمام الشافعي (- 204 ه‍)، وهو نتاج المدرستين معا، فنقد فقه العراقيين بنفس القوة التي نقد بها فقه أهل المدينة، ووضع حدا لاضطراب القياس في الفترة السابقة، وشاعت (رسالته) التي بعثه إلى عبد الرحمن بن مهدي (- 198 ه‍) وفيها خطته في أصول الفقه والاعتماد على القياس فقط، وألف كتبه المعروفة في: (إبطال الاستحسان) و (اختلاف العراقيين) و (الرد على محمد بن الحسن) و (اختلاف مالك والشافعي) و (جماع العلم) و (اختلاف الحديث) وكلها وصلتنا في كتاب (الأم)، وكان من الطبيعي أن يدافع فقهاء الحنفية والمالكية عن مناهج أئمتهم وأصولهم الفقهية، فبدأ الأحناف في استخراج أصولهم مما تفرق في كتب أبي يوسف ومحمد ابن الحسن، كما بدأ المالكية يجمعونها من أصول إمامهم في (الموطأ) وما روي عنه
(١١٧)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 112 113 114 115 116 117 118 119 120 121 122 ... » »»
الفهرست