ولكن هل يعقل أن العربي حين يتكلم بلغته - فيرفع الفاعل، وينصب المفعول، ويرفع اسم كان وينصب خبرها، ويعرب بعض الألفاظ ويبني بعضها، ويشتق، ويصوغ، ويذكر ويؤنث، ويحذف ويضمر، وأمثال ذلك - ينص على الأسباب التي جعلته ينطق بلغته على هذه الكيفية؟! بل هل له أن يراعي أو يدرك تلك الأسباب حتى ينص عليها في بعض ويومئ إليها في البعض الآخر؟! أو أن العربي - كغيره من الأجناس الأخرى - يتكلم بلغة قومه، بصورة عفوية دون أن يخطئ في حركاته، واشتقاقاته، وتركيباته، كما لا يخطئ غيره من المتكلمين باللغات الأخرى، لأنهم يصدرون في كل ذلك عن مخزون ما ألفوه من صياغة وتركيب؟!
بل هل نحن الذين تكلمنا بلغة العرب - بعد أن عرفنا عللها كما استنبطها النحاة - حين نتكلم بهذه اللغة، فنرفع، وننصب، ونخفض، ونجزم، ننص أو نشير إلى أسباب ذلك؟! وهل يكون كلامنا حينئذ لغة عربية عفوية؟! أو هو بحث في اللغة العربية!!؟.
وقد حاول هؤلاء المؤلفون في أصول النحو، أن يؤكدوا مسلك النص على العلة، وبخاصة ابن جني، فهو بعبقريته اللغوية النادرة، وملاحظته الدقيقة عقد فصلا في كتابه لذلك، مؤكدا أن العرب نصوا على العلة أحيانا، ولم يذكر أكثر من خمسة شواهد لا تنهض جميعا لأن تعتبر أمثلة للنص على العلة، إلا بتدخل فهم ابن جني لها، بعكس تنصيص الشارع الواضح: (من أجل ذلك) أو (لعلة كذا) أو (لأنها مكسرة)، ولعل أوضح هذه الشواهد ما دار بينه وبين صاحبه (الشجري)، وهو بدوي في القرن الرابع، وقد سأله ابن جني:
(كيف تقول: ضربت أخاك؟ فقال: كذاك، فقلت: أفتقول: ضربت أخوك؟ فقال: لا أقول (أخوك) أبدا، فقلت: فكيف تقول: ضربني أخوك؟
فقال: كذاك، فقلت: ألست زعمت أنك لا تقول (أخوك) أبدا؟ فقال: أيش ذا؟! اختلفت جهتا الكلام) ثم يعلق ابن جني مستنتجا: (فهل هذا في معناه