لم يمض، فالضرب الأول كقوله تعالى: (والله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا فسقناه إلى بلد ميت فأحيينا به الأرض بعد موتها كذلك النشور) [فاطر / 9].
فإنه إنما قال فتثير مستقبلا وما قبله وما بعده ماض، لذلك المعنى الذي أشرنا إليه هو حكاية الحال التي يقع فيها إثارة الريح السحاب واستحضار تلك الصورة البديعة على القدرة الباهرة، وهكذا يفعل بكل فعل فيه نوع تمييز وخصوصية كحال تستغرب أو تهم المخاطب أو غير ذلك، وأورد شواهد على ذلك.
وأما الضرب الثاني الذي هو مستقبل، فكقوله تعالى: (إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله) [الحج / 25] فإنه إنما عطف المستقبل على الماضي، لأن كفرهم كان ووجد ولم يستجدوا بعده كفرا ثانيا وصدهم متجدد على الأيام لم يمض كونه، وإنما هو مستمر يستأنف في كل حين، وكذلك ورد قوله تعالى:
(ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة إن الله لطيف خبير) [الحج / 63] ألا ترى كيف عدل عن لفظ الماضي ههنا إلى المستقبل، فقال:
فتصبح الأرض مخضرة ولم يقال فأبحت عطفا على أنزل، وذلك لإفادة بقاء أثر المطر زمانا بعد زمان، فإنزال الماء مضى وجوده واخضرار الأرض باق لم يمض.
هذا خلاصة ما ذكره أئمة اللسان والبيان وجهابذة البلاغة في معنى اختلاف التعبير باختلاف ما يعبر عنه حقيقة ومجازا واستعارة وكناية لاعتبارات خطابية وأسرار بيانية، وبمراعاة تلك الاعتبارات تفاوتت ضروب الكلام وكشفت الأستار عن وجوه إعجاز القرآن، ومن أوتي شيئا من الذوق البياني وعلما من الأسلوب القرآني وانعم النظر وأمعن الفكر في هذه الخلاصة التي احتوت على بيان الحكمة في التعبير عن الماضي، بلفظ المستقبل وبلفظ المستقبل عن الماضي يظهر له جليا أن التعبير بلفظ يصطفي بدلا من لفظ اصطفى لحكمة ظاهرة، وهي أن الآية رد لما أنكره المشركون من أن يكون الرسول من البشر، وبيان أن رسل الله على ضربين ملائكة وبشر، ولما كان الغرض من اصطفاء الرسل من الضربين وهو التكليف بما يصلح البشر في