تفجعه بشئ هو مكين (1) به من أحبائه، فالدنيا أحق بالذم، هي الآخذة ما تعطي، الراجعة فيما تهب، بينا هي تضحك صاحبها، إذ أضحكت منه، وبينا هي تبكي له، إذ أبكت عليه، وبينا هي تبسط كفه بالإعطاء، إذ بسطتها بالاسترداد، وتعقد التاج على الرأس، وتعفره غدا في التراب، سواء عليها ذهاب ما ذهب وبقاء ما بقي، تجد (2) في الباقي من الذاهب خلفا، وترضى بكل من كل بدلا (3) وكتب الحسن البصري إلى عمر بن عبد العزيز: أما بعد، فإن الدنيا دار ظعن ليست بدار إقامة، وإنما أنزل آدم عليه السلام إليها عقوبة، فاحذرها - يا أمير المؤمنين - فإن المراد منها تركها، والغنى منها فقرها، لها في كل حين قتيل، تذل من أعزها، وتفقر من جمعها، هي كالسم يأكله من لا يعرفه، وهي جيفة، وكن فيها كالمداوي جراحه يحتمي قليلا، مخافة ما يكره طويلا، فيصبر على حدة الدواء، مخافة طول البلاء، فاحذر هذه الدار الغرارة الختالة الخداعة، التي قد زينت بخدعها، وقتلت بغرورها، وتحلت بآمالها، وتشوفت لخطابها، فأصبحت كالعروس المنجلية، فالعيون إليها ناظرة، والقلوب عليها والهة، والنفوس لها عاشقة، وهي لأزواجها كلهم قاتلة، فلا الباقي بالماضي معتبر، ولا الآخر على الأول مزدجر، ولا العارف بالله عز وجل حين أخبره عنها يدكر.
فعاشق لها مدله (4) قد ظفر منها بحاجته، فاغتر وطغى ونسي المعاد، فشغل بها لبه، حتى زلت عنها قدمه، عظمت ندامته، وكبرت حسرته، وأجمعت عليه سكرات الموت بألمها، وحسرات الفوت بغصتها، ومن رغب فيها لم يدرك منها ما طلب، ولم يروح نفسه من التعب، فخرج بغير زاد، وقدم على غير مهاد، فاحذرها وكن أسر ما تكون فيها أحذر ما تكون منها، فإن صاحب الدنيا كلما اطمأن منها إلى سرور أشخصته (5) إلى مكروه، السار فيها لأهلها غار، والنافع منها غدا ضار، وقد وصل الرخاء منها في البلاء، وجعل البقاء فيها إلى فناء، فسرورها مشوب بالأحزان، لا يرجع فيها ما ولى وأدبر، ولا يدرى ما هو آت فينتظر، أيامها كاذبة، وآمالها باطلة، وصفوها كدر، وعيشها نكد،