حياة الإمام الرضا (ع) - السيد جعفر مرتضى - الصفحة ٥٣
بهم، ومن تعيينه خلفاءه منهم، فليس لأجل قرباهم النسبية منه صلى الله عليه وآله، بل لأن الأهلية، والجدارة الحقيقية لهذا النصب قد انحصرت في الخارج فيهم. فهو على حد تعبير الأصوليين:
من باب الإشارة إلى الموضوع الخارجي. وليس تصريحه صلى الله عليه وآله بالقربى لأجل بيان الميزان والمقياس والملاك في استحقاقهم الخلافة.
وواضح أنه كان لا بد من الالتجاء إلى الله ورسوله لتعيين الشخص الذي له الجدارة والأهلية لقيادة الأمة، لأن الناس قاصرون عن إدراك حقائق الأمور، ونفسيات، وغرائز، وملكات بعضهم البعض.. إدراكا دقيقا وحقيقيا، وعن إدراك عدم طرو تغير أو تبدل عليه في المستقبل. ولقد عينه صلى الله عليه وآله بالفعل، ودل عليه بمختلف الدلالات، بالقول، تصريحا، وتلويحا، وكناية، ونصا، ووصفا، وغير ذلك، وبالفعل أيضا، حيث أمره على المدينة، وعلى كل غزوة لا يكون هو صلى الله عليه وآله فيها، ولم يؤمر عليه أحدا، وغير ذلك.
هذا هو رأي الشيعة، وهذا هو رأي أئمتهم في هذا الأمر، وكلماتهم طافحة ومشحونة بما يدل على ذلك. ولا يبقى معه مجال لأي لبس أو توهم، فراجع كلام الإمام علي في شرح النهج للمعتزلي ج 6 ص 12، وغيره مما قد يتعسر استقصاؤه..
ومما ذكرنا نستطيع أن نعرف أن ما ورد عن الإمام علي عليه السلام، أو عن غيره من الأئمة الطاهرين، من قولهم: أنهم هم الذين عندهم ميراثرسول الله صلى الله عليه وآله، فإنما يقصدون به الميراث الخاص، الذي يختص الله به من يشاء من عباده، أعني: ميراث العلم، على حد قوله تعالى: " ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا. " وقد اعترف أبو بكر نفسه لفاطمة الزهراء بأن الأنبياء يورثون العلم لأشخاص معينين من بعدهم، وعلى كل فلقد أنكر علي عليه السلام مبدأ استحقاق الخلافة بالقرابة والصحابة أشد الانكار، فقد جاء في نهج البلاغة قوله عليه السلام: " واعجبا!! أتكون الخلافة بالصحابة والقرابة النسبية؟! ".
وأما ما يظهر منه أنهم يستدلون لاستحقاقهم الخلافة بالقربى من رسول الله صلى الله عليه وآله، فإنما اقتضاه الحجاج مع الخصوم، فهو من باب: " الزموهم بما الزموا به أنفسهم ". ويدل على هذا المعنى ويوضحه ما قاله الإمام علي عليه السلام لأبي بكر، عندما جيئ به ليبايع، فكان مما قاله: ".. واحتججتم عليهم (أي على الأنصار) بالقرابة من النبي صلى الله عليه وآله..
وأنا أحتج عليكم بمثل ما احتججتم به على الأنصار، نحن أولى الخ ".. راجع: الإمامة والسياسة ج 1 ص 18.
ويشير أيضا عليه السلام - إلى هذا المعنى في بعض خطبه الموجودة في نهج البلاغة فمن أراد فليراجعه.. كما ويشير إليه أيضا ما نسب إليه عليه السلام من الشعر (على ما في نهج البلاغة) وهو قوله:
فإن كنت بالشورى ملكت أمورهم * فكيف بهذا والمشيرون غيب وإن كنت بالقربى حججت خصيمهم * فغيرك أولى بالنبي وأقرب ولكن أحمد أمين المصري في كتابه: ضحى الإسلام ج 3 ص 261، و ص 300، و ص 222، و ص 235، وكذلك سعد محمد حسن في كتابه: المهدية في الإسلام ص 5.
والخضري في محاضراته ج 1 ص 166: إن هؤلاء ينسبون إلى الشيعة القول: بأن منصب الخلافة يدور مدار القربى النسبية منه صلى الله عليه وآله وحسب، رغم اعتراف أحمد أمين في نفس الكتاب، وبالتحديد في ص 208، 212: بأن الشيعة يحتجون بالنص في خصوص الخليفة بعد الرسول. بل والخضري يعترف بذلك أيضا حيث قال: " أما الانتخاب عند أهل التنصيص على البيت العلوي، فإنه كان منظورا فيه إلى الوراثة الخ ".
وهي نسبة غريبة حقا - بعد هذا الاعتراف الصريح منهم، ومن غيرهم - فإن عقيدة الشيعة - تبعا لأئمتهم هي ما ذكرنا، أي ليس منصب الخلافة دائرا مدار القربى النسبية منه صلى الله عليه وآله، وأدلة الشيعة تنطق وتصرح بأن القربى النسبية وحدها لا توجب بأي حال من الأحوال استحقاق الخلافة، وإنما لا بد من النص المعين لذلك الشخص الذي يمتلك الجدارة والأهلية والاستعداد الذاتي لها.
إنهم يستدلون على خلافة علي عليه السلام بالنصوص القرآنية، والنبوية المتواترة عند جميع الفرق الإسلامية، ولا يستدلون بالقربى إلا من باب: ألزموهم.. أو من باب تكثير الأدلة، أو في مقابل استدلال أبي بكر وعمر بها، وإذا ما شذ واحد منهم، واستدل بذلك، معتقدا بخلاف ما قلناه عن قصور نظر، وقلة معرفة، أو لفهمه - خطأ - ما ورد عنهم عليهم السلام. من أن عندهم ميراثرسول الله صلى الله عليه وآله، فلا يجب، بل لا يجوز أن يحسب على الشيعة، ومن ثم القول بأن ذلك هو قولهم، وأن تلك هي عقيدتهم.
ولعل أحمد أمين لم يراجع أدلة الشيعة!!
أو أنه راجعها، واشتبه عليه الأمر!!
أو أنه. لا هذا. ولا ذاك.. وإنما أراد التشنيع عليهم، فنسب إليهم ما ليس من مذهبهم!
ويدلنا على صحة هذا الاحتمال الأخير، اعترافه المشار إليه، بأن الشيعة يستدلون على إمامة علي عليه السلام بالنص، لا بالقربى!!..
وخلاصة القول هنا: إن القربى النسبية ليست هي الملاك في استحقاق الخلافة. ولم تكن دعوى أنها كذلك، لا من الأئمة، ولا من شيعتهم. وإنما كانت من قبل أبي بكر، وعمر، ثم الأمويين، فالعباسيين.
وإذا كان أهل السنة - تبعا لأئمتهم - قد جعلوا كون الإمامة في قريش من عقائدهم.
وإذا كان غير أهل البيت هم الذين ادعوا هذه الدعوى، وهللوا وكبروا لها. فمن الحق لنا إذن أن نقول:
" رمتني بدائها وانسلت ".
وأخيرا.. فلقد كان من أبسط نتائج هذه العقيدة لدى أهل السنة، وقبولهم أن القربى النسبية تجعل لمدعيها الحق في الخلافة.. أن سنحت الفرصة لأن يصل أشخاص إلى الحكم من أبرز مميزاتهم، وخصائصهم جهلهم بتعاليم الدين، وانسياقهم وراء شهواتهم، أينما كانت، وحيثما وجدت، جاعلين الحكم والسلطان، وسيلة إليها، مسدلين على حماقاتهم هنا، وتفاهاتهم هناك ستارا من القربى النسبية منه صلى الله عليه وآله. وهو من هؤلاء وأمثالهم برئ.
ولما لم يعد ذلك الستار يقوى على المنع من استكناه واقعهم، وحقيقة نواياهم وتصرفاتهم، كان لا بد لهم من الالتجاء إلى أساليب أخرى، تبرر لهم واقعهم، وتحمي تصرفاتهم، وتؤمن لهم الاستمرار في الحكم، ولعل بيعة المأمون للإمام الرضا عليه السلام بولاية العهد هي من تلك الأساليب، كما سيتضح إن شاء الله تعالى..