ولم تكن ذاكرة مكة قد أفلتت شيئا ذا بال، من أخبار يتيمها الهاشمي من مولده إلى مبعثه، وقد تعلقت به تتابع خطاه على درب الحياة.
وهي التي أعطت التاريخ ما احتاج إليه بعد المبعث، من أخبار سيرته في المراحل الأولى من حياته، إذ تفد المراضع من بني سعد بن بكر ليحملن رضعاء قريش بعيدا عن جو مكة القاسي، ويعرض عليهن (محمد بن عبد الله) فيزهدهن فيه يتمه، وأن لم يكن ذا ثراء يكافئ نسبه الشريف في البيت الهاشمي القرشي، وقد مات أبوه في مقتبل العمر قبل أن يتأثل لنفسه مالا، لم يترك لولده اليتيم وأمه، سوى جاريته الحبشية (بركة، أم أيمن) وقطعة يسيرة من الإبل والغنم.
وأحزن (آمنة) أن ترى المراضع يوشكن أن يعدن إلى البادية زاهدات في وليدها الشريف اليتيم، مؤثرات عليه أطفال الاحياء ممن يرجى منهم الخير الوافر.
غير أن واحدة منهن: (حليمة بنت أبي ذؤيب السعدي، وزوج الحارث بن عبد العزى، من سعد بن بكر بن هوازن)، رجعت إلى أم محمد تطلبه رضيعا لها، بعد أن انصرفت عنه أول ذاك النهار.
وحفظت مكة من قصة الرضاعة، ما نقله التاريخ بعد المبعث، من رواية عبد الله بن جعفر بن أبي طالب:
(كانت حليمة بنت أبي ذؤيب السعدية أم رسول الله صلى الله عليه وسلم التي أرضعته، تحدث أنها خرجت من بلدها، بادية بني