الدر النظيم - إبن حاتم العاملي - الصفحة ٢٣٨
ويحكم عدلا يتفجر العلم من جوانبه، وتنطق الحكمة من فيه، يستوحش من الدنيا وزهراتها، ويستأنس بحنادس الليالي وظلماتها، وكان والله غزير الدمعة، كثير الفكرة، يقلب كفه، ويخاطب نفسه، يعجبه من اللباس ما غلظ وقصر، ومن الطعام ما خشن، كان والله كأحدنا وأفضل، يجيبنا إذا سألناه، ويبتدئنا إذا استحييناه، ويعظم الدين، ويحب المساكين، لا يطمع القوي في باطله، ولا ييأس الضعيف من عدله، فاشهد بالله لقد أتيته في بعض مواقفه وقد أرخى الليل سدوله، واشتبكت نجومه، وقد مثل في محرابه قائما، قابضا على لحيته، يتململ تململ السليم، ويبكي بكاء الحزين، وكأ ني أسمعه وهو يقول: يا دنيا إلي تعرضت أم إلي تشوقت، هيهات هيهات، غري غيري، قد طلقتك ثلاثا لا رجعة عليك، لأن عمرك قصير، وشأنك حقير، وخطرك يسير، وحسابك كثير، ثم بدا واجدا باكيا قائلا: آه من قلة الزاد، وبعد السفر، وخشونة الطريق.
قال ضرار: فبكى معاوية حتى ابتلت لحيته من دموعه بما يملكها وهو يشهق حتى انتحب الحاضرون بالبكاء، وقال معاوية: رحم الله أبا الحسن كان والله كذلك، فكيف حزنك عليه يا ضرار؟
قال: حزن والدة ذبح ولدها في حجرها، فما ترقى عبرتها، ولا تسكن حرارتها (1).
حدث جابر الجعفي، عن أبي جعفر محمد بن علي (عليه السلام)، قال: خطب أمير المؤمنين (عليه السلام) بالكوفة عند منصرفه من النهروان وبلغه أن معاوية يسبه ويعيبه ويقتل أصحابه، فقام خطيبا، فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وذكر ما أنعم الله عز وجل على نبيه وعليه. ثم قال: لولا آية في كتاب الله ما ذكرت ما أنا ذاكر في مقامي هذا، يقول الله عز وجل: * (وأما بنعمة ربك فحدث) * (2) اللهم لك الحمد على نعمك التي لا تحصى، وفضلك الذي لا ينسى.

(١) لم نقف على مصدره بالسند والمتن المذكورين، وقد ورد بعض عباراته في نهج البلاغة:
ص ٤٨٠، قصار الحكم: ٧٧. ورواه الصدوق مسندا عن أصبغ بن نباته باختلاف في المتن، راجع الأمالي: ٤٩٩، المجلس ٩١، ح ٦.
(٢) الضحى: ١١.
(٢٣٨)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 233 234 235 236 237 238 239 240 241 242 243 ... » »»