مطالب السؤول في مناقب آل الرسول (ع) - محمد بن طلحة الشافعي - الصفحة ١٧٦
أن الزهد (1) في الشئ لا يتحقق إلا بعد معرفة ذلك الشئ المزهود فيه، والإحاطة بأن مجانبته خير من مقاربته والإعراض عنه أنفع من الإقبال عليه، فإن من لم يعرف الشئ ولم يحط بأن اجتنابه خير من اجتذابه لا يخصه بزهد فيه و نفرة عنه ولا يقدم عليه بميل إليه ولا باقتراب منه إذ النفرة والرغبة ينشئان مما اشتمل عليه ذلك الشئ من المفاسد المنفرة والمصالح المرغبة، وذلك لا يحصل إلا بعد الإحاطة والمعرفة به، وإذا وضح لك توقف الزهد على معرفة المزهود فيه، فاعلم أن أمير المؤمنين عليا (عليه السلام) لم يزهد في الدنيا إلا بعد أن عرف حقيقتها وأحاط علما بدناءتها واطلع ببصر بصيرته على مساوئها وتحقق السموم القاتلة المودعة فيها، وقد صرح بذلك في كثير من كلماته التي أفصح بإيراد صورها ومعانيها وصدع ببيان عطب طالبيها وفوز مجانبيها.
فقال يوما وقد أحدق الناس به: أحذركم الدنيا فإنها منزل قلعة وليست بدار نجعة، هانت على ربها فخلط خيرها بشرها وحلوها بمرها، لم يصفها لأوليائه ولم يضن بها على أعدائه، وهي دار ممر لا دار مستقر، والناس فيها رجلان رجل باع نفسه فأوبقها ورجل ابتاع نفسه فاعتقها، إن اعذوذب منها جانب فحلا أمر منها جانب فأوبى، أولها عناء وآخرها فناء، من استغنى فيها فتن ومن افتقر فيها حزن ومن ساعاها فاتته ومن قعد عنها أتته، من أبصر بها بصرته ومن أبصر إليها أعمته فالإنسان فيها غرض المنايا مع كل جرعة شرق ومع كل أكلة غصص لا ينال منها نعمة إلا بفراق أخرى (2).
وقال يوما في مسجد الكوفة وعنده وجوه الناس: (أيها الناس إنا قد أصبحنا

١ - في نسخة (ع) زيادة: (ثابتا لعلي (عليه السلام) أن الزهد).
٢ - وردت بشكل متناثر، انظر شرح نهج البلاغة ٧: ٣٤٦ / خطبة 112 وورد قسم منها في بداية ربيع الأبرار وغرر الحكم للآمدي.
(١٧٦)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 171 172 173 174 175 176 177 178 179 180 181 ... » »»